أخي صاحب الملاذات.. هكذا انتخب مقعدك الوثير في هذه الرحلة المتجهة إلى أرض الفونج.. { وددت لو كانت عندي المؤهلات لممارسة مهنة «المراسل الحربي» فأكتب توثيقاً لتمرد الحركة الشعبية في الدمازين وفي مناطق أخرى من ولاية النيل الأزرق أيام عيد الفطر. إن مشاهدة الأحداث بالعين أشد تأثيراً، فالصورة تزيدها عمقاً وتضيف بُعداً مؤثراً باقياً، فعلى سبيل المثال قرأت قبل عدة سنوات رواية (الحرب والسلام) التي كتبها (تولستوي) المثقف الثوري العظيم سليل النبلاء في روسيا القيصرية ولكنني تأثرت كثيراً بالمشاهد الدرامية عندما رأيتها بالعين وقد حولتها «هوليود» إلى فيلم سينمائي في العصر الذهبي للسينما. أجواء السلام والطمأنينة قبل الانفجار: كانت مدينة الدمازين الخضراء الجميلة يعيش أهلها كباراً وأطفالاً فرحة عيد الفطر المبارك. وبعد الصلاة والتهاني راح الجهاز الهضمي للأفراد يستقبل الخبيز والعصائر ولا شيء آخر لإشباع شهوات الجسد لكن ليس من رحيق العنب.. فما عاد من المباح أن يشتهي المرء في العيد ما كان يشتهيه أمير الشعراء أحمد شوقي ويقول: رمضان ولي هاتها يا ساقي مشتاقة تسعى إلى مشتاق وكنت في صباح اليوم الثالث للعيد ودعت أسرتي الصغيرة المؤلفة من زوجتي وابنتي ليسافرا في أحد البصات السياحية إلى الخرطوم للمشاركة في زفاف أحد الأقارب. وبقيت كالسيف وحدي في دارنا بالدمازين ولأنني كنت أعاني من الشعور بالوحدة في ذلك المساء وضعت في المسجل شريط الكاسيت لأغنية (الجندول) التي يتغني بها الفنان الكبير عبد الكريم الكابلي ( الأغنية كما هو معروف من تأليف «الملاح التائه» التي يتغنى بها الفنان المهندس علي محمود طه والذي قال عنه الدكتور طه حسين في «حديث الأربعاء» إن الشاعر المهندس يجيد كتابة الشعر الرومانسي وإبداع الموسيقى الشعرية). وفجأة وفي ذلك الجو الربيعي ونحن في (الصعيد) في موسم الأمطار والناس يتبادلون التهاني بالعيد السعيد، تبدد سكون الليل بزخات من طلقات البنادق، وفي بادئ الأمر حسبت تلك الطلقات المعدودة صادرة من بندقية «خرطوش» إذ كانت هنالك حفلة عرس في الحي السكني الذي لا يبعد عننا كثيراً وفي العادة تكون هنالك طلقات خرطوش من أفراد الأسر الغنية يطلقونها وهم يبشرون ويعرضون مع إيقاع الدلوكة، لذا وفي ذلك الجو الممطر الذي يشبه أجواء الربيع بالإضافة إلى السلام النفسي الذي جلبه عيد الفطر مع تأثير موسيقى ومفردات أغنية «الجندول» راح النعاس يعانق أجفاني رغم تلك الطلقات التي بددت سكون الليل فما كان السهر صاحب حاجة عندي. فالعشاق وحدهم الذين يساهرون وإذا اشتدت في دواخل الواحد من العشاق نار الوجد والصبابة مضى يتغنى: سهران الليل أناجي القمرا وأنا ما كنت واحداً من العشاق. التمرد والصراع الدموي في أحياء المدينة: في الصباح الباكر من اليوم التالي خرجت بكل حذر ووقفت عند باب الحوش المطل على الشارع الرئيس وما كنت في حاجة لأسأل جيراني عن وقائع الموقف. الدبابات والعربات ناقلة الجنود كانت تملأ الشوارع. وزخات الطلقات التي كنت في الليل أحسبها طلقات خرطوش صادرة عن حفل العرس تحولت إلى انفجارات ذخيرة ومدفعية وراجمات ودانات طائرة، ولأن منزلنا لا يبعد كثيراً عن قيادة الفرقة العسكرية كان هنالك عدد كبير من الجنود أمام بوابة الفرقة يحملون أسلحتهم وهم ينشدون (النار ولعت). ولقد أصبح واضحاً فيما بعد أن قوات الحركة الشعبية هاجمت القيادة واشتبكت القوات المسلحة مع عناصر الحركة في المعسكرات وبعض العقارات التي يقيمون فيها داخل الأحياء السكنية بالمدينة (ولقد أبلت القوات المسلحة بلاءً حسناً وكان منهم الشهداء). ما الذي أصاب دعاة السلام والوحدة الوطنية داخل الحركة؟ لم يصدق الناس ما حدث، رجل الشارع العادي كان يقول: أنها جهجهة وزعزعة، وعمل غير مسؤول يؤدي إلى سفك دماء أبناء الوطن الواحد، وراح الناس يتناقلون الأخبار بأن الفريق مالك عقار والي الولاية غادر المدينة مع أعضاء حكومته تاركاً النار تشتعل خلفه، وامتلأت النفوس بالدهشة فلقد كان الفريق مالك عقار يبشر في إذاعة الولاية وفي الندوات وفي اجتماعاته مع زعماء الإدارة الأهلية يبشر بالسلام وبالوحدة الوطنية وبأنهم لن يلجأوا إلى الحرب من أجل تحقيق المطالب السياسية (المشورة الشعبية، ونصيب الولاية العادل في السلطة والثروة القومية). أيضاً الناس يذكرون بأن العقيد علي بندر نائب الوالي قام بعد أن جلس الإمام من صلاة عيد الفطر وألقى خطبة عصماء بليغة تنحو منحى قصائد (زهير بن أبي سلمى) داعية السلام في العصر الجاهلي وكانت خطبة العقيد بندر تدور حول السلام والوحدة الوطنية غير أن أحد المتشائمين راح ينشد بعد خطبة العقيد: أرى تحت الرماض وميض نار وأخشى أن يكون له ضرام قناة الجزيرة تخبر العالم بالحرب في الدمازين والنيل الأزرق: تساؤلات كثيرة ظلت تدور في نفسي غير أن رنين جرس الموبايل كان يحول دوني ودون الإبحار بأشرعة التأمل والتساؤلات. أخذت المكالمات تنهال عليّ من العديد من مدن السودان ومن مدن بعض دول الخليج وكنت أقول للمتحدثين بالهاتف أنا وأسرتي بخير أطمئنوا وشكراً لكم. وكان بعضهم يسمع أصوات الطلقات وزمجرة الراجمات في الهاتف ويقولون لي عجّل بالخروج من هذا الجحيم. ولقد هزت وجداني تلك المشاعر، مشاعر التعاطف والشفقة والتضامن الإنساني من جانب الأقارب والأصدقاء بعد أن سمعوا أنباء الحرب من قناة الجزيرة، وكنت أقول لنفسي: الأكرم للمرء أن يموت واقفاً في سبيل المبادئ والُمثل العليا لا أن يموت (سمبلاً ساكت) كما يقول إخواننا أبناء الجنوب. كما أنه من العدل والانصاف أن تتاح الفرصة للمجني عليه ليطارد الجاني ( دار دار.. زنقة زنقة) كما يقول (ملك ملوك إفريقيا) العقيد القذافي. مدينة تهاجر نحو الشمال: بسبب هذه الأحداث هاجر جميع سكان مدينة الدمازين نحو الشمال نحو (هارون وود النيل وسنجة) حيث وجد المهاجرون الزاد والكرم الحاتمي ( والآن يتدفق الدعم من كل الولايات للنيل الأزرق والقوات المسلحة) هاجروا وهم يحملون الأطفال وما خف من المتاع.. نزحوا راجلين وعلى الدواب وعلى عربات الكارو وفي الترلات المقطورة في الجرارات وكانوا بلا ماء ولا طعام والذين يصيبهم التعب كانوا يجلسون تحت الأشجار، وأنا لا أشك بأن تلك الجموع كانت تكيل اللعنات لمن كان السبب في إشعال الحرب مما جعل المواطنين يحصدون الشوك والخوف والقلق ويتركون ديارهم ومصادر رزقهم في تلك المدينة التي تجزرت فيها الحياة الاجتماعية والاقتصادية والتي ظلت ترفد أرياف الفونج والصعيد بالإشعاع الحضاري. أما آن الأوان؟ ولقد ظللت أتساءل أما آن الأوان لكي يتوقف هذا السيل المتدفق من النازحين والمشردين في دارفور وجنوب كردفان؟ أما من نهاية لهذا الطوق الشيطاني الذي يتمدد كالتنين أو الأخطبوط من الغرب ليحطم اليوم أضلاع أحفاد عبد الله جماع وعمارة دنقس وغداً يحطم أضلاع أحفاد كوش وبعانخي وترهاقا. لا بد إذن.. من تقوية الجبهة الداخلية وإشراك الجماهير في السلطة وفي صياغة القرارات المصيرية التي تحفظ هوية الشعب السوداني الأفروعربي، تحفظ عرضه وأرضه ويقتضي هذا الأمر حشد الموارد البشرية والمادية لصيانة الأمن (الأمن هو الحاجة الأولى والأهم للمجتمعات البشرية). وأيضاً لصيانة السلام الاجتماعي ولتحقيق التنمية الشاملة والنهضة القومية وللإسهام في ازدهار الحضارة الإنسانية. والشمس تشرق أيضاً: هذا عنوان إحدى روايات (ايرنست هيمنجواي) (The Sun Also Rises)الرواية تمتزج فيها مشاعر الحب مع روح التفاؤل وكان ذلك في ميادين القتال في الحرب العالمية الثانية إذ أن البطل وهو مؤلف الرواية سقط جريحاً في الحرب في إيطاليا وفي المستشفى أحب ممرضة حسناء كانت تشرف على علاجه. والذي لا شك فيه أن الشمس لسوف تشرق من جديد بعد هذه الأحداث في الدمازين وفي النيل الأزرق وفي كل أنحاء الوطن وغداً لسوف تكون حقول الزراعة الآلية والمطرية «والبلدات» موعودة بازدهار السنابل والقناديل في (أقدي، بوط، أب شنينة، كرن كرن، بالدقو، قيسان، الكرمك، أورا). ثم تأتي أعياد الحصاد ومثل أنثى فاتنة تزيح طقوس (جدع النار) ثياب النوم عن جسدها فتشتعل الساحات بالرقصات الفولكلورية وتمتلئ الآفاق بموسيقى (الوازا) ولن يجرؤ أحد ليتغني بأغنية (النار ولعت) في حضرة السلام. دفع الله أحمد الحاج- ضابط إداري متقاعد