يشغل موضوع التشكيل الحكومي الجديد حيزاً كبيرا في المشهد السياسي هذه الأيام والمتوقع إعلانه خلال شهر وفق تصريحات صحفية الأيام الماضية، وذلك لتعليق القوى السياسية المحلية والدولية الكثير من الآمال عليه بطرفيها الحكومي والمعارض، فداخل المؤتمر الوطني هناك ضغوط شديدة للمطالبة بالإصلاح السياسي ومنح فرصة أكبر للشباب كترياق مضاد للثورات وفتح منافذ للأمل، وهو ما وعد به الرئيس البشير قبل أشهر عندما صرح بأن (تسعين بالمئة) من الحكومة القادمة ستكون وجوهاً شبابية جديدة. جبهة المعارضة أيضا تنتظر التشكيل الجديد لإعادة ترتيب أوراقها فحزب الأمة القومي والحزب الاتحادي الأصل اللذان يتأرجح خيارهما بين المشاركة والرفض يمثلان التيار الغالب في الشارع السياسي السوداني بما لهما من ثقل تاريخي كبير. ومع كل حالة الترقب هذه تصاعدت وتيرة التكهنات والتنبؤات بين الأوساط السياسية وفي دوائر المراقبين، ومما دأبت على نشره بعض الصحف السياسية في الفترة الماضية من تسريبات عن التشكيل الوزاري المرتقب خلال ساعات بالبلاد الأسماء التي ترددت وحملتها إحدى الصحف اليومية أشارت لبعض الوجوه المعروفة للرأي العام حيث جاء على رأسها الدكتور غازي صلاح الدين الذي توقعت المصادر أن يكون وزيرا للخارجية، والدكتور عوض الجاز للطاقة والتعدين، وعلي محمود للتجارة والصناعة، وأسامة عبد الله للري والموارد المائية والكهرباء، والسموأل خلف الله للثقافة والإعلام، وغيرهم من أسماء أخرى معروفة. إلا أن اللافت في بورصة التكهنات هو ظهور بعض الأسماء الجديدة التي لم يكن لها أي ظهور إعلامي أو نشاط سياسي بل وحمل بعضها رتبا عسكرية جرت الإشارة إليها باقتضاب مثل العميد محمد إبراهيم (أو ود إبراهيم كما أشارت إليه بالبنط الأحمر العريض إحدى الصحف) كمرشح محتمل ليكون وزيرا للداخلية. تلقت الأوساط المعنية بالشأن السوداني "التسريب الصحفي" وأثار كل الفضول السياسي والصحفي عن هذه الشخصية التي جرى ترشيحها لهذه الوزارة السيادية الكبيرة والمهمة، وتطور "التساؤل" إلى "حيرة" لدى الرأي العام، فهذا الاسم ليس معروفا للكثيرين حتى داخل المؤتمر الوطني فضلا عن المراقبين أو القوى السياسية الأخرى. فمن هو هذا الشخص وما هي الظروف التي دفعت بالحزب إلى أن يقوم بترشيحه فهل هو ممثل لقبائل أو جهة إقليمية في السودان؟ أم أن ترشيحه جاء على خلفية توازنات وترضيات داخل الحزب الحاكم؟ أم لا هذا ولا ذاك فقط شخص خلفيته عسكرية ولكنه جاء بتأهيل سياسي عال واستحق هذا الاختيار؟ السؤال الذي يجب أن يتبادر إلى الذهن أولا هو حول هذه الأخبار والتسريبات هل هي صحيحة ومؤكدة؟ أم أنها مجرد تكهنات صادفت قرب تشكيل الحكومة الجديدة؟ يتداول الصحفيون في الخرطوم رواية مفادها أن هذه التسريبات تقترب ب 80% من الحقيقة، وبسؤالنا مصادر قريبة من المطبخ السياسي أكدت المصادر ل "الأهرام اليوم" أن هذه التسريبات صحيحة بنسبة كبيرة، ويبقى فقط اعتمادها من الرئيس البشير، والمجلس القيادي للمؤتمر الوطني، خطوتنا الثانية كانت البحث عن هذه الشخصية المذكورة محمد إبراهيم الذي وجدنا أن اسمه بالكامل هو محمد إبراهيم عبد الجليل من مواليد نهر النيل (ينتمي إلى قبيلة الجعليين) من مواليد 1964 يحمل حاليا رتبة عميد بالجيش، وكان آخر المناصب التي شغلها هو الملحق العسكري للسودان بنيروبي لمدة أربعة أعوام قبلها كان مسؤول أمن رئاسة الجمهورية وخدم بجنوب السودان فترة الحرب مدة اثني عشر عاما، وقالت مصادر صحفية ل "الأهرام اليوم" إنه شخص قريب جدا من الرئيس البشير وعمل معه بصورة لصيقة جدا كمسؤول أمنه الخاص لمدة تزيد على السبع سنوات، وكذلك يعرفه الرأي العام داخل الحزب باعتباره قائد (فرقة الدبابين)، ولا يذكر عن صفاته الشخصية الكثير سوى أنه معروف بالصرامة والحزم والتشدد. ويذكر رفيق له سابق من الضباط أحيل إلى التقاعد أنه شخصية اجتماعية محبوبة ولكنه قليل الكلام ويؤثر الصمت. وإن كانت هذه المعلومات الشحيحة غير كافية لمعرفة الرجل المرشح على الأقل في هذه الفترة فما هي الظروف والمعطيات التي جعلت اسمه يذكر بالبنط الأحمر العريض في صحف الخرطوم خاصة أنه من خلفية عسكرية وإن كان لا يحمل رتبة رفيعة فبلا شك الجيش الآن به رتب كبيرة كفريق وعشرات من رتبة لواء وربما مئات من رتبة العميد، فلماذا هذا الترشيح ولماذا هذا الشخص وفي هذه الفترة؟ بعض المراقبين والدبلوماسيين الأجانب يشيرون إلى أن الأوضاع في الخرطوم بعد تفجر الأحداث في جنوب كردفان والنيل الأزرق أعادت القبضة العسكرية للنظام الحاكم، وبدأ الوجه المدني للحكومة يتوارى أو بطريقة مخففة أنها رجحت كفة الصقور في المؤتمر الوطني، واتضح ذلك جليا في الطريقة التي تعامل بها الرئيس البشير بعد عودته من الصين مع اتفاق أديس أبابا الذي وقعته قيادات بالحزب مع الحركة الشعبية قطاع الشمال حيث رفض الاتفاق الذي وقعه الدكتور نافع علي نافع وأطلق يد الجيش ليكمل تحرير جنوب كردفان من الغدر كما وصفه. وعزز هذا الحديث ما دار مؤخراً في ورشة أمريكية مغلقة لوضع سياسة الولاياتالمتحدةالأمريكيةالجديدة تجاه السودان، التي حظيت بحضور رسمي كبير ولافت للنظر يظهر الاهتمام الذي يلقاه الشأن السوداني من قبل الإدارات المختلفة في الحكومة الأمريكية، حيث حضر ممثلون للبيت الأبيض (مستشارية الأمن القومي، والمبعوث الرئاسي)، بالإضافة إلى دبلوماسيين من وزارة الخارجية (مساعد الوزير للشؤون الأفريقية، ومكتب القرن الأفريقي) ووكالة المخابرات المركزية (CIA) ووكالة المعونة الأمريكية (American Aid)، وعدد من الخبراء وممثلون للمجتمع المدني الأمريكي من أساتذة الجامعات ونواب من الكونغرس. الورشة تناولت في اجتماعها السري بواشنطون مظاهر انقلاب ناعم داخل المؤتمر الوطني. ويبدو ظاهراً بوضوح أن المشهد في السودان الآن يحكمه الرئيس والجيش. وبالرجوع إلى شخصيتنا محل البحث نجد أن ترشيح واختيار العميد محمد إبراهيم عبد الجليل وزيراً للداخلية في هذا التوقيت يعطي إشارات كثيرة منها أن الرجل في مرحلة الشباب كان القائد لهم في ميدان القتال لأكثر من اثني عشر عاماً وأن اختيار رتبة عميد لقيادة وزارة سيادية بحجم الداخلية في ظل وجود جنرالات كبار داخل الجيش يعطي أيضا مؤشرات فسرتها مصادر ل "الأهرام اليوم" بأن الرئيس البشير قد أعلنها بأن من سيخلفه سيكون شابا ومن المؤسسة العسكرية لأنها صمام الأمان للبلاد. تجدر الإشارة إلى أن البشير عندما جاء إلى الحكم كان يحمل ذات الرتبة (عميد) وأن عدداً من رفاق البشير من أعضاء مجلس الثورة قد تولوا وزارة الداخلية وهم بذات الرتبة أولهم فيصل علي أبو صالح. أسئلة كثيرة سوف تجيب عنها الأحداث في الأيام - بل وربما - الساعات القليلة القادمة..!!