نحو (4) ساعات أو يزيد كانت جبال الشرق تمارس عادتها القديمة في التآمر على الغرباء، هنالك على تخوم محلية همشكوريب ومحلية (تلكوك) بدأت رحلة (الأهرام اليوم).. هدير محرك العربة بعد أن امتلأت بالوقود يغري بالمسير، جبل توتيل الصامت الخجول الذي اشتهر باحتضان العشاق يتلاشى شيئاً فشيئاً ويتوارى عن الأنظار، نيران حطب الهجليج تتصاعد بين البيوت الغامضة، يعشوشب الممر الجديد الذي يفصل مدينة كسلا عن أقرب محطة للكهرباء، ساعتئذٍ تتناسل الأسئلة الممعنة في قضايا جدل الهامش والمركز، كسلا بمحلياتها السبع هل يتفاقم الإحساس لديها بالتهميش بذات القدر، كما تفاقم في ولايات أخرى لا تزال نيران الحرب تشتعل فيها؟ (1) أول ما تكتحل به عيونك غير الجمال الناحلة التي تلهث في الصحراء دون دليل سوى الفطرة هو تناسق تام في الزي لا تكاد تميز الفوارق فيه بين أي قبيلة وأخرى (جلابية وصديري وخلال)، والأجمل من ذلك هو القيم الحية والكرم المتأصل في بداوتهم.. (الأدروبات) هنا وهنالك، نحن الآن في قرية (نواويت) التي تبعد حوالي ثلاثين كيلومتراً عن المدينةكسلا ولا تكاد تلمح أية امرأة تائهة في هذه الصحراء كأن الرمال ابتلعتهن منذ قرون ولكنهم يتناسلون في هدوء خرافي، (تهداي) المسجد والخلاوي التي يديرها الشيخ عمر أوهاج رجل تخرج في جامعة أم درمان الإسلامية منذ ثمانينات الحقبة المنصرمة ولكنه آل على نفسه المكوث في هذا المكان وتلقين الصغار في خلوته الواسعة المعروشة بحطب (الكتر)، الشيخ أوهاج يساعد في صنع الطعام لطلابه بنفسه فيتوافدون عليه من همشكوريب (وتلكوك) (ودرديب) ومن أطراف الولاية قاطبة، ينطلق في الفضاء صوت دافئ وحنون تشعر معه بأن الأمكنة بلا شياطين أبداً وأن الأهالي وإن تضوروا جوعاً فهم أسخياء يؤثرون على أنفسم لإكرام ضيفهم وإغراق خلاوي الشيخ سليمان علي بيتاي بالمؤونة، أقسموا علينا أن نتذوق طعامهم وقهوتهم أو تتقطع بنا الأسباب، بعض من الأهالي البسطاء هنا لم يسمعوا بجمعية حماية المستهلك ومقاطعة اللحوم ولا بالتشكيل الحكومي المرتقب ولا حتى بأغاني ندى القلعة..!! (2) محلية همشكوريب من هنا تبتعد مسافة ثلاث ساعات ولكن ما يتذكره المواطنون وللمفاجأة أيضاً أن أحد قيادات الحركة الإسلامية اقتسم معهم الذاكرة والمكان لسنوات تطاولت وباتوا من حينها يتساقطون أخباره لأنه في الماضي كان يعبر بسيارته البيضاء من ذات الطريق متجهاً نحو همشكوريب فيستريح بينهم للتزود ومن ثم ينطلق بقافلة من أبناء ولاية جنوب دارفور ينتهي بها المزار في خلاوي همشكوريب ليحفظ أبناء جنوب دارفور القرآن في ذات خلاوي الشيخ علي بيتاي، ويستعيد الرجل من حفظوا القرآن ويعود بهم لمنطقته عد الفرسان ليعلموا آخرين ما تعلموه على أمل أن يعاود المجيء في العام القادم بذات القافلة وعلى ذات الطريق وبنفس الكيفية، امتدت هذه البعثات حتى كشرت قوات الحركة الشعبية عن أنيابها ذات صيف قاحل واحتلت همشكوريب وصادرت (اللواري) لأكثر من (6) شهور قبل أن تفرج عنها، ولكن فجأة وبعد مفاصلة الإسلاميين انقطعت تلك الهجرات، واحتمى ذلك الرجل بالغياب، الرجل هو نائب رئيس الجمهورية الحالي؛ الدكتور الحاج آدم يوسف، الذي خبر دروب المنطقة (قرية قرية، دار دار، خلوة خلوة)، ويعرفه الجميع هنا ويسألون عن أخباره، ولم يدر بخلدهم بعد أن زارهم آخر مرة وهو يهم بالخروج إلى أسمرا عشية اتهامه بقيادة ما سمي وقتها بالمحاولة الانقلابية ضد النظام قبل سنوات ليست بالبعيدة، لم يدر بخلدهم أبداً أن الدكتور الحاج آدم سيعود من أسمرا وينضم للمؤتمر الوطني ويصبح نائباً لرئيس الجمهورية بهذا الشكل الدراماتيكي. (3) ابتغاء وجه الحقيقة هبطنا وادياً أسلمنا إلى مدخل محلية تلكوك بعد (5) ساعات في الفلاة، وهي من أخطر المحليات من حيث الموقع لأنها متاخمة للشريط الحدودي مع أريتريا وهي المحلية التي طمرتها السيول العام الماضي وكادت أن تختفي للأبد لولا جهد جبار بذله معتمد المحلية محمد طاهر سليمان بيتاي الذي تمكن بعون حكومة الولاية من إنقاذ أهله من الطوفان. تلكوك هي المحلية التي اقتحمتها ذات مساء تسعيني قوات التحالف بقيادة عبدالعزيز خالد وتمركزت فيها بمساندة الحركة الشعبية. في ذلك الوقت كان معتمد المحلية في العقد الثاني من عمره يقاتل في صفوف الحكومة السودانية وتمكن مع إخوانه من استعادة همشكوريب وتلكوك. محمد طاهر شاب ينحدر من قبيلة الهدندوة الذين يطوقون الولاية، وهو ضابط بالقوات المسلحة الدفعة (47)، يتمتع بقدر رائع من الوطنية والقوة والإخلاص لبلاده، وطموح خلاق تجلت مخرجاته في نهضة المحلية وتشييد كبري (كركون) وتوصيل الكهرباء والماء وطلمبة البنزين، وحالة من الاستقرار حتى لا تكاد تصدق أنك في مدينة حدودية ما عرفت لسنين عجاف غير الدماء والدموع..!! (4) سرعان ما تغيرت ملامح الرجل وخطفته صرامة العساكر عندما سألناه عن الوضع الأمني وحقيقة ما يشاع عن حشود تتحفز للحرب، لم يبتسم ولم يغضب ولكنه أجاب بوضوح: «شوف دي مجرد مخاوف لا أساس لها من الصحة، نحن نتمتع بعلاقة جيدة مع الأريتريين ولا يفصل بيننا وبينهم أي حواجز، الوضع مستقر وأمن»، ويضيف: «هنالك (مندسين) عايزين يعملوا طابور قلق» على حد وصفه، لكننا والحديث للمعتمد بيتاي، لا ننشغل بهم، نحن لا نريد الحرب التي اكتوى أهلنا بها واليوم كلهم مع السلام، ويضيف إنه يتحرك بسيارته في كل مكان دون أن يشعر بأي مخاطر أو يلحظ بوادر أزمة، وأضاف أن هنالك تجار معلومات يريدون أن يعطلوا حركة التنمية في المحلية بعد أن توفرت فيها المدارس والمستشفيات والطرق. ويناشد محمد طاهر الحكومة الولائية والمركز بتوفير الدعم لمحليته ليجعل منها نموذجاً للمحليات المزدهرة في السودان ويؤكد جاهزيتهم لصد أي عدون يهدد أمن وسلامة البلاد، قاطعاً في الوقت نفسه بعدم وجود تنظيمات معارضة في محلية تركوك. (5) نحن الآن في آخر نقطة حدودية وغير محروسة وهو ذات المكان الذي أشيع بأنه يؤوي مجموعات معادية للسودان وأنه تمت فيه عمليات إنزال للانقضاض على الشرق، ولكن حقيقة لا شيء غير الرمال وجثث الحيوانات الميتة، وزهرُ فوضوي اللون.. جبال وأشجار تلوح في الأفق كأنها تنتعل رقرقة السراب، لافتة يتيمة لمنظمة (نسدار) التي طردتها الحكومة السودانية قبل عام ونيف وعلى اللافتة عبارة تحذر من خطورة استخدام الأطفال في الحروب، وضرورة ادماجهم في المجتمع بالتنسيق مع اليونسيف.. المعتمد الذي لم يبد استغرابه من تعطشنا لمعرفة الحقيقة يطرح ذات السؤال علينا: «أها شفتوا الأعداء، وريني ليهم عشان أبلغ المركز»..!! ويصمت قليلاً قبل أن يسترسل ضاحكاً: «نفس هذه المخاوف يواجهنا بها أعضاء حكومة الولاية حتى الوالي بيسألنا عن الوضع الأمني وبننقل ليه الصورة التي تراها أنت الآن، نحن مبسوطين وسعداء بالسلام الذي يتمتع به أهلنا ولا نرغب في العودة للحرب»، وهى نفس الإجابة التي تتلبس ألسنة الكثيرين من أبناء المنطقة. المدير الإداري وعضو المجلس التشريعي وطبيب المركز وصاحب الدكان والرجل الذي يصنع القهوة، جميعهم تستفيق فيهم ذات الإجابات. (6) شمس المغيب الصفراء الهادئة تستعد لخلع ملابسها وراء الجبال، الساعة تقترب من السابعة مساء، وفي طريق العودة وبينما أنا أتفقد بعض المناطق التي نزعت منها الألغام صاح أحدهم بأننا تورطنا بالدخول في حقل ألغام..!! لم أنتبه للإشارة الحمراء.. وهو نفسه الموقع الذي كانت تعمل فيه الكاسحات قبل أن تتوقف بسبب الخريف.. يا إلهى (حقل ألغام)..!! شعور بالخوف اعتورني في تلك اللحظة.. التمادي في الحراك يجعلني مثل (كسحي) بطل رواية منصور الصويم..!! هكذا رأيت نفسي إذا انفجر بي لغم مدفون منذ سنوات.. «ماذا أفعل»؟! بدأت أزحف على أمشاطي بهدوء حتى خرجت من الموقع، وعلى مقربة منا هنا تتمركز حامية (توقان) التي هي عبارة عن مزرعة ألغام ما زال العمل جارياً في نظافتها بعد أن أكمل الجهاز القومي لمكافحة الألغام نظافة معسكر دقنة و(حميمات)، لا شيء هنا غير شجر المسكيت والأعشاب الجافة، وهذا الجانب من محلية (تلكوك) هو الأخطر لأنه في الماضي كان معبراً وحيداً للجيوش الغازية ولذلك تم تسويره بالألغام والأسلحة التي ما زالت في باطن الأرض، ضحايا الألغام كثر كانوا ولا يزالون، ولكن من الذي زرعها على مقربة من حركة الإنسان والحيوان.. من؟ (الأهرام اليوم) وهي أول صحيفة تتسلل إلى هذه المزارع المخيفة والمعروفة سابقاً بالمناطق المحرمة، تمكنت من اقتحام المكان لترفع من معتمد المحلية ذات اللافتة (أن تركوك في حاجة للدعم والمساندة) لتستكمل عافيتها، رفعنا اللافتة والمساء يسدل علينا ثوباً كثيفاً من الظلام ومن ثم عدنا للمدينة بعد رهق طويل وفي عيوننا المنى (وافترقنا.. قالها الدمع فما أبصرنا شيئاً)..!!