كلما سمع رنة هاتف تمتمت شفتاه ب (اللهم اجعله خير) ثم تهبط نظراته على جهاز الهاتف دونما انقطاع وكأنه يستنطقه (ماذا هناك).. ملامحه تلح متسائلة ومتعجلة.. ينهض واقفا دون أن يفلت الهاتف من حصار نظراته أو تفلت الأجراس المتصاعدة من طبلة أذنه، يتقدم نحو الهاتف وكأنه يتقدم لمواجهة.. يرفع سماعة الهاتف وهو يترقب وجلا، لا ينطق بحرف حتى يستبين الجانب الآخر من المكالمة فيهدأ روعه.. عشر سنوات قضاها الرجل فزعا منذ تحرير جغرافية الاتصالات وظهور الموبايلات واقتنائه جهازا، يتصاعد قلقه كلما انتشرت أجهزة الموبايل والشرائح وسط عامة الناس ويدرك تماما أنها مواعين، وكل إناء بما فيه ينضح، ويدرك كذلك أنه كلما زاد انتشار الشرائح زادت مواجع الناس وابتلاءاتهم بهذا الداء الجديد المدمر. هو يعلم أن القفزة الهائلة التي شهدتها تقنية الاتصالات قد كسرت الحواجز بين كافة الناس، فحامل الشريحة يمكن أن يطرق كافة الأبواب الموصدة ويتحدث إلى الطفل والفتاة والأب والأم في ما يختاره من موضوعات وما يتلفظ به من كلمات، ويزداد الأمر تعقيدا مع التطور المتلاحق في تقنية أجهزة الموبايل فصار بمقدور أي فرد أن يستدرج محدثه ويستنطقه وقبل ذلك يضغط على زر التسجيل ومن ثم يرسل المادة المسجلة إلى آخر كان هو موضوعها وكذلك فإن كاميرات أجهزة الموبايل قد تكسرت أمامها العبارة الشهيرة (ممنوع الاقتراب والتصوير) ودخلت بيوت الناس وداخليات الطالبات ومنها إلى الإنترنت دون أن نتعرف على الفاعل وسط عشرات الموبايلات التي تصور علنا وسرا. يرفع الرجل سماعة الهاتف.. في الطرف الآخر شاب يرسل كلمات عجلى.. ألوووو.. يباغته الرجل بكلمات حازمة.. أهلا.. مين؟؟. فيرتبك الشاب ولكنه سريعا ما يتماسك ويختار أي اسم آخر: معاك.... يباغته الرجل بإجابة لم يكن يتوقعها: أيوه معاك. يرتبك الشاب ويغلق الهاتف في وجه الرجل.. الرجل يدخل في حالة من الشك والريبة في حقيقة المكالمة الفائتة، يتسع ثقب الشك والريبة ليشمل بناته في البيت بالرغم من ثقته الكبيرة فيهن.. فتحت عليه هذه المكالمة المسروقة بابا من العذاب والقلق والتوتر والتردد.. مَن مِن بناته طرق الشاب يطلبها؟ هل من الحكمة أن يتساءل بهذه الطريقة وفي حضرة بناته، وهن سكنه ونبع مودته وحصن ثقته؟ فيتعجل طاردا لوسواس يتحطم أمام ثقته في بناته، ويركن إلى قناعة راسخة بأن الطارق معتوه ضل طريقه إلى هاتف بيته وأمسك من لحظتها عن الخوض في وسواس المكالمة الفائتة وأسرع واضعا سماعة الهاتف في مكانها ومضى إلى حاله يستعرض المتاعب والمشاكل التي تتعرض لها الأسر بسبب المكالمات الهاتفية المسروقة، غير مستبعد لأي ردة فعل من تلك الأسر مهما كانت فظاعتها.. استعرض الرجل في تلك الليلة عشرات المشاكل التي تتسبب فيها أجهزة الموبايل والهواتف بشكل عام. وجد الرجل كافة الجرائم حاضرة بدءا بجريمة القتل التي تتكرر خلف مكالمات عدة، وجريمة الأذى الجسيم كانت حاضرة بمعدلات مذهلة والطلاق بسبب المكالمات يتجاوز أي مسببات أخرى وغير ذلك العديد من التداعيات الخطيرة التي أحدثتها المكالمات داخل المجتمع.. انشغل الرجل بهذا العذاب الذي نشتريه بفلوسنا وكيف نجنب أنفسنا وأسرنا ومجتمعنا متاعبه وبماذا نبدأ؟ بتوعية الناس أم بالتقنية نفسها أم بالقانون أم تنطلق هذه الخطوط الثلاثة متوازية وفي آن واحد وصوب هدف واحد؟ في غمرة ذلك ثمة كتاب على طاولة بمنزله يقطع عليه استرساله، العنوان يمضي في اتجاه تفكيره (مكالمة آخر الليل - القصة الكاملة لأحداث أم درمان 10 مايو 2008م) يهرول نحو الكتاب، يلتقطه.. ثلاث ساعات وقد فرغ من قراءته تماما ليخلص الرجل إلى مفاجأة مدوية وهي أن غزو خليل لأم درمان بدأ بمكالمة هاتفية تلقاها من وزير الدفاع التشادي لم يكن يتوقعها ومن ثم توالت الأحداث حتى العاشر من مايو.. وقبل أن يعيد الكتاب إلى مكانه يتمتم الرجل بكلمات (برضو السبب مكالمة!!)...