يحكى أنه في زمن سحيق كانت معرفة الأهالي في الريف بضروب القراءة والكتابة شحيحة ونادرة، بحيث كان النسوة في إحدى القرى يلجأن إلى (ود الفضل) ليفك لهن طلاسم الخطابات التي ترد إليهن من أزواجهن الذين يعملون بمحطات السكة الحديد البعيدة، وكان ودالفضل لا يجيد القراءة تماماً ولكنه يستعين على تفسير تلك (الجوابات) ببعض حكمة ومعرفة بتفاصيل الحياة في القرية، كأن يقول لإحداهن مجتهداً أن زوجك يقول سوف يرسل لكم المصارف مع أحد زملائه القادمين في مقبل الأيام وأنه سينزل للبلد في إجازته السنوية في الصيف القادم و..و.. ولم يكن أمام النسوة من خيار آخر يلجأن إليه غير (ود الفضل) الخيار الوحيد المتاح في القرية، وبينما كان ود الفضل في إحدى المرات يمارس هوايته في قراءة أحد الخطابات قدم إلى القرية أحد الأفندية الذين يجيدون تماماً فن القراءة، فطفقت المرأة صاحبة الخطاب تلح على ود الفضل (ليفك الخطاب) حتى تذهب به إلى الأفندي القادم، ولكن ود الفضل كان متشبثاً بالخطاب، فصاحت المرأة في الحضور (يا جماعة منو البفك جوابي من ود الفضل؟!).. فأصبح مثلاً يضرب في القرية. وقصة النيتو الذي جئ به للمساعدة في القضاء على كتائب القذافي تبدو أقرب لتراجيديا جدنا ود الفضل، فحلف النيتو كما ود الفضل اجتهد في أن يفك بعض طلاسم كتائب القذافي بتوجيه تلك (الضربات الخجولة) من الحين للآخر، لكن قائده الأعلى الذي نزل على طرابلس منذ أيام قد صرح بأن قواته، برغم انتهاء العمليات وإعلان التحرير على كامل الإراضي الليبية، إلا أنها ستراقب الأمر عن كثب، وأنها ستتدخل حالما رأت أن هنالك ضرورة للتدخل، ويضيف الرجل، لا فض فوه، بأن (المجتمع الدولي) قلق جداً من انتشار الأسلحة في المنطقة وبعض جماعات القاعدة! وبدأ لي أن حلف النيتو كان مضطراً لمشاركة الثوار الليبيين ثورتهم، على الأقل لتجد دول هذا الحلف الصليبي موطئ قدم في ليبيا ما بعد القذافي، لتجد شركات هذا الدول حظها في خيرات هذا البلد العربي الغني بالنفط والغاز، ثم ليساهم النيتو في ترسيم ليبيا سياسياً حتى لايتسلل الإسلاميون إلى منصات الحكم، سيما وللدول الغربية قلق قديم جديد من تنامي نشاط جماعات القاعدة والجماعة الإسلامية في منطقة المغرب العربي، ومن الطرائف في هذا السياق أن هذا الحلف قد مارس ضغوطاً على دولة مالي لتنشط في ملاحقة جماعات القاعدة، فقال لهم رئيسها (كيف أحارب جماعة تصبح في بلد ثم تمسي في قطر وبلد آخر؟!). وهنالك استفاهمات كثيرة يمكن أن تطرح وسط هذه السيناريوهات، لكن الاستفهام المحور هو لماذا انتظر حلف النيتو ثمانية أشهر متردداً في حسم القذافي وهو الذي يمتلك من التقنية وآليات الحرب ما يمكنه من القضاء على القذافي في ثماني ساعات؟!، وبدا لي أن حلف النيتو بتلك المناورات، وهو يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، كان يهدف ويراهن على استمرار حالة الاحتراب بين الليبيين في الجانبين حتى تخرج ليبيا من الحرب الطاحنة مهدودة الحيل ومحطمة البنية التحتية، وذلك لوضعها تحت الوصاية الدولية، ثم يؤتى بالشركات الغربية والمنظمات الإنسانية لينهبوا الخيرات ويكملوا بقية الحكاية. كانت تصريحات السيد عبدالجليل ليلة التحرير وغداتها من منصة عاصمة الثورة بنغازي تذهب في طريق التحرير وإنهاء عمليات حلف النيتو، لكن تصريحات الرجل أمس الأول من عاصمة قناة الجزيرة الدوحة وبالقرب من قاعدة السيلية مقر أكبر قاعدة أمريكية في المنطقة، كانت مختلفة تماماً وهو يطالب باستمرار النيتو وعملياته في ليبيا، وذلك تحت مسوغات أن لليبيا ثمانية ألاف كيلومتر من الحدود المشتركة مع الدول الأخرى، وأن الجيش الوطني لم يتشكل بعد! مخرج.. لا أتصور ان هذه الدراما غائبة عن (عبدالحكم بلحاج) وإخوانه، لكنهم يواجهونها بشيء من الحكمة والتروي والبصيرة والمصابرة.