{ دعوني أبدأ من هناك، كنت استمتع منذ فترة بالاستماع ومشاهدة حلقة تلفزيونية غير تقليدية عن «فريضة الحج»، وشدني استدراك أحدهم بأن «فريضة الحج» تخضع في معظم الأحيان لاستذكار المؤمن وحضوره الديني. فمثلاً هنالك نداء يرفع على كل رأس فريضة صلاة، كما تُحظى فريضة الصيام بحشد من التنبيهات والاستعدادات والبيانات، غير أن فريضة الحج هي استدراك شخصي ينهض على استطاعة مادية يقدرها الحاج نفسه، فيمكن لأي إنسان أن يقول لك صلّ وصوم، وفي المقابل لا تجد من يقول لك «أقم فريضة الحج»، الفريضة التي تُقام باستشعار شخصي. ولا أعرف إن كنت قد نجحت في إيصال فكرة تلك البرامج أم لا!... لكني أود هنا أن أشير إلى «أدب المديح النبوي» الذي نجح في أن يملأ هذا الفراغ وهو يلهب ذاكرة ووجدان السودانيين ويحرِّضهم على الذهاب في «رحلة العمر» رحلة فريضة الحج، فكلما اقتربت مواقيت فريضة الحج كلما احتدمت أناشيد الحج وما أكثرها، بحيث استلفت عنوان مقالي هذا من أكثرها تحريضاً. قالوا الحجيج طلع طالب نور البقع قلبي زاد وجع حماني القيد طلع { غير أني أكتب هذا المقال في مواسم العودة من الحج، ونحن هذه الأيام نعيش (لحظات كرائم الاحتفالات والكرامات) واحتفال العائدين وكراماتهم، تحرضنا نحن الذين لم نكن معهم، وتحفِّزنا بوضع لبنات النية من الآن لموسم الحج القادم، وأتصور أنها عادة طيبة أن ينحر الحجاج العائدون الخراف ويدعون المشاركين والجيران والأصحاب لهكذا ولائم. { ومن طرائف (كرامات العودة)، يُحكى أن في أزمنة سحيقة مضت كان يُجلب السجاد العجمي الفاخر من الحجاز، وكان أحد الحجاج العائدين قد نحر ما شاء الله له من الخراف ثم افترش (الديوان الكبير) بالسجاد العجمي الذي أتى به من تلك الديار، مما أثار حفيظة أبناء جيرانه فقالوا لوالدهم «(نتوِّرك السنة الجاية للحج لتجلب لنا مثل هذا السجاد). فمذ يومهم ذهبوا في حالة تحضير والدهم للحج القادم، فلما حلَّ ميقات الحج جهزوا له كل المستندات وذهبوا معه حتى المطار، فقال كبيرهم (يا أبوي ما تنسي السجاد)، فقال الوالد (يا ولد إنت مجنون وأنا المقومني من البلد شنو غير السجاد)!! وكان في غابر الأزمان لا يذهب الإنسان إلى المسجد والحج إلا عندما يمشي على ثلاثة أرجل إحداهن عصا، لكن وبحمد الله الآن قد عُمِّرت هذه الفرائض وزُيِّنت بالشباب. { يلاحظ أن في هذا العام قد بدأت حالات الاحتقان في الموانئ والمطارات في رحلات الذهاب، مما جعلنا نحن في وسائل الإعلام نعد أنفسنا لحالات فشل افتراضية باهظة عند العودة، لكن بعثة الحج وآلياتها من خطوط وغيرها قد أفسدت علينا تلك التوقعات، فلم ينتظر الحجاج في أسوأ الأحوال أكثر من أربع وعشرين ساعة بالمطارات، مقارنة بأسابيع بأكملها في المواسم السابقة، فهنالك بعض العقبات التي لم ترق إلى حالة الظاهرة التي تستحق إقامة المقالات الحسان والتحقيقات الجادة. { وربما يرفد فكرتي هذه، المناشدة التي وصلتني من الأخ الحاج السر علي الهادي، مناشدة خطوط (صن أير) بالإلتزام بترحيل «ماء زمزم» الذي تخلَّف، فالفوج الذي ضم الأخ السر لم يتمكن من اصطحاب ما يحمل من ماء زمزم، بحيث حُملوا على تركه وراء ظهورهم بميناء جدة الجوي، على وعد من ذات الخطوط بإلحاقها بأصحابها في أقرب وقت ممكن، وهذا ما لم يحدث حتى كتابة هذا المقال و(صن أير) تحتفل بإنجازاتها. { أنا هنا لست بصدد إفساد احتفالات هذه الشركة التي اجتهدت كما لم تجتهد شركتنا الوطنية سودانير «طيبة الذكر»، التي لم نفتقدها هذا العام لدرجة تلك العبارة اللئيمة «لا ينقصنا سوى عدم رؤياك الغالية». { سيدتي صن أير.. العهد الذي بيننا وبينكم «ماء زمزم حجاجنا»، لتكتمل مراسم الاحتفالات ولنقل لكِ مبروك، فعلى الأقل إن تخلَّف هذا الماء المقدَّس جعل هدايا الحجاج بلا طعم. { ولعلها مناسبة طيبة أن أبارك الحج لكل الحجاج وأخص الذين هم من حولي، الحاج الأستاذ عبدالله دفع الله رئيس مجلس إدارة هذه الصحيفة، وأبارك للإخوان الحجاج السر علي الهادي ومحمد الحسين جعل وأبناء أختي محمد عبدالرحمن وآمال مصباح وابن عمنا الحاج عبدالرحمن الياس كرار، وابن خالنا صديق محمد بابكر وصديقنا العزيز «ود الشيخ» ببنك الشمال.. وكل الحجاج. سعياً مشكوراً وذنباً مغفوراً وحجاً مبروراً ووعداً مصدوقاً لنا في مقبل الأيام.. والحمد لله رب العالمين.