على امتداد تاريخ السياسة السودانية منذ استقلال البلاد في الفاتح من يناير 1956م ظلت السياسة السودانية تتأرجح ما بين انسجام القوى السياسية تارة، ومشاكساتها واختلافاتها العنيفة أو المهادنة مع بعضها البعض ولسنوات عديدة تارات أخر، حيث كانت القوى السياسية تتفق في حالة وجود أوضاع عسكرية شمولية تسيطر على مقاليد الحكم من وقت لآخر تحت ظروف متباينة تتخذها كمعاذير لتسلمها السلطة بالقوة المسلحة، ثم تختلف ذات القوى السياسية (الأحزاب) وبعنف سياسي سلمي عالي الوتيرة فور إطلالة شمس الديمقراطية كاملة الدسم. والأسباب معروفة ومفهومة ولا تحتاج كثير شرح أو تبيان. ولكن هذه المرة حدثت عدة ظروف ومتغيرات سياسية خلال عهد الإنقاذ أدت إلى اختلاف واضح الملامح مقارنة بما ذكرناه في مستهل هذا التحليل، ومرد ذلك أن تمدد عهد الإنقاذ الذي تعدى العقدين من الزمان وسوف يتعدى الربع قرن حين يستكمل الرئيس البشير ولايته الحالية، ومن خلال هذه السنوات الطويلة فإن المتغيرات ترتكز على أهم عامل، ألا وهو الانشطار الكبير والعنيف والمتنامي كل صباح والذي حدث في حركة الإسلام السياسي بالسودان، أو بما يعرف بمفاصلة الرابع من رمضان /ديسمبر 1999م حين انشطرت الإنقاذ، وانشطرت الحركة الإسلامية التي كانت تقبض بقوة واضحة كانت تكسوها القوة الباطشة بعنف، فتكوَّن على إثرها المؤتمر الشعبي والمؤتمر الوطني أو بما كان يعرف بجماعة المنشية والقصر. وخلال تلك السنوات التي تلت العام 1999م حدثت عدة تحولات وتفاهمات بين حكومة الإنقاذ في وجهها الجديد بعد المفاصلة، وبين القوى السياسية كافة، خاصة التي كانت تكون التجمع الوطني الديمقراطي المعارض. فجاء حزب الأمة القومي إلى داخل البلاد بموجب اتفاقية جيبوتي بينه والسلطة، ثم جاءت الحركة الشعبية لتحرير السودان وهي ترفل في ثياب زاهية الألوان حين نجحت في إيقاف الحرب ووقعت مع المؤتمر الوطني اتفاقية نيفاشا للسلام الشامل في 9/1/2005م، ثم تمددت حركة الشد والجذب فور رحيل قائد الحركة الدكتور جون قرنق، وتغيرت الخطط الدولية لتتجه الحركة صوب خيار الانفصال بعد أن كان جون قرنق يعمل على وحدة قوية للسودان تنهي حالة الاستقطاب الحاد وفق مواثيق وأدبيات جديدة، كما عاد التجمع الوطني بكافة هياكله بعد توقيع اتفاقية القاهرة في يونيو 2005م، غير أن المعضلة تمثلت في (جهجهة) تطبيق بنود تلك الاتفاقية. والآن... تعيش البلاد مرحلة جديدة، فيها جنوح معارضة جديدة تسعى لإسقاط النظام الحالي، بعضها معارضة خارجية تعتمد على الزخم الإعلامي من خلال النت والفضائيات، لكنها تفتقد إلى البعد الداخلي الفاعل، والذي يعتمد المعارضة التحالفية بين الشعبي والشيوعي، وإلى حد ما حزب البعث بمختلف فصائله. ومن خلال المعايشة المنطقية للأشياء، فإن الهاجس الأساسي يبقي متمثلاً في الحركات المسلحة، وقد تعددت هي الأخرى بعد حركات دارفور لتطل حركات جبال النوبة وصعيد النيل الأزرق على مسرح الأحداث. ولكن، الآن أتت التوجيهات من الرئيس الأمريكي أوباما إلى الرئيس الجنوب سوداني الفريق أول سلفاكير ميارديت موضحاً له الانتباه لدولته الجديدة وعدم تسبيب قلق للسودان الشمالي، طالما أن كل استحقاقات اتفاقية نيفاشا للسلام قد وصت إلى (الميس الأساسي) وهو الاستفتاء وقيام دولة جنوب السودان، على أن تحل بقية الإشكاليات بالتوافق الحواري.(وبهذه المناسبة لماذا تمرد الفريق مالك عقار واستعجل الأمر؟) حيث اختلف السيناريو الأمريكي الآن عن سابقه. والآن يتضح أن كل الظروف قد اختلفت، ونحا الحزب الاتحادي الأصل في اتجاه الإشتراك في الحكومة القادمة، برغم أن حظه من الشراكة يبدو متواضعاً، كما أن حظه في إدارة دفة الحكم التنفيذي للدولة لا وجود له مطلقاً، كوكلاء الوزارات والممثليات الدبلوماسية، ومؤسسات القطاع العام الكبرى كمشروع الجزيرة الراكد والسكة الحديد وسودانير، وقطاعات ومؤسسات النفط، وكافة الأجهزة الإعلامية والمجالس الشبابية والقومية المتخصصة، دعك عن الأجهزة الأمنية التي لن يحلم بها الاتحادي الأصل حسب كل المؤشرات، بل حتى الوزارات ذات الثقل السيادي لن تجد طريقها إلى دار الأصل أو غير الأصل حسب المؤشرات أيضاً. وبالطبع.. حتى إن قام الحزب الاتحادي الأصل بتغيير موقفه من الشراكة لأي مستجدات قد تطرأ، برغم أن الأمر يبدو بعيداً حالياً، فإن خيار الأصل لن يكون التنسيق مع تحالف المعارضة الداخلية أو الجبهة الثورية الوليدة بسبب اختلاف الأجندة وتباين الأفكار والخطط، باعتبار أن الحزب الاتحادي يتبع خطاً ارتضاه منذ عدة سنوات، وهو خط ثالث يعتمد على العمل بقوة وصبر معاً لإحداث وفاق وطني شامل يحتمل حتى الحركات المسلحة الطرفية. لأن هذا الطريق هو الحل الوحيد والعملي والمنطقي لإبعاد شبح الفوضى والقتال الذي ربما يصل حتى قلب الخرطوم. فالاتحادي لا يتعامل بالشعارات أو بردود الأفعال مطلقاً، وهنا تبدو الكياسة السياسية أو بما يسمى الدبلوماسية الهادئة التي تحقق مصالح الشعب دون توتر أو ضحايا، تماماً مثلما كان سيحدث إن تم قبول مبادرة الميرغني - فرنق في نوفمبر 1988م حيث كانت النتائج المتوقعة باهرة آنذاك، ومن أهمها أن أرواح الأربعة ملايين سوداني التي أهدرت في الجنوب تكون قد حفظت.. ولكنه التهور وعدم قراءة الأشياء جيداً بسبب الاستعلاء الفكري والتحليلات المدمرة. كما يبدو أن القوى الدولية التي صنعت نيفاشا وأيضاً التي صنعت الجنائية الدولية قد بدأت تغير في مواقفها تجاه أهمية استقرار السودان بعد تدميرها للنظام الليبي السابق وخروج الحركات السودانية المسلحة منه تجاه أطراف السودان الغربية القريبة من دولة تشاد. إذن.. يبدو في الأفق القريب جداً، سيناريو عربي أفريقي دولي جديد تجاه الخرطوم، وسوف يخلق هذا الواقع الدولي الجديد دولة سودانية شمالية جديدة تعتمد الديمقراطية والتداول السلمي للسطة منهاجاً لها بعد فشل تجارب الأنظمة القمعية الشمولية في خمس دول عربية الآن. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة الآن هو: هل يتمكن قادة الحزب الحاكم بالسودان من التخلص من عقلية الاثنتين وعشرين سنة الماضية التي ناطحت فيها السلطة السحاب، ثم أدارت وجهتها الآن نحو فتح المجال للقوى السياسية عن قناعات فكرية تامة؟ أم أن في الأمر تاكتيك مرحلي يمكن أن يفشل وبسرعة البرق؟ وهل ينتهز المؤتمر الوطني موافقة الاتحادي الأصل في توافق انتقالي معه ربما يتمدد إلى تنسيق مستقبلي بينهما إن تمددت مواعين الحكم وأتت البرامج لصالح شعب السودان اقتصاداً وأمناً وعدالة؟ أم تتكرر سيناريوهات الاتفاقيات المضروبة السابقة؟ وهنا نقول.. إن الأيام حٌبلي، تلد كل جديداً.. فلننتظر، ولنا عودة،،،،