كانت الحياة تسير سيرها الطبيعي بولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، وذلك قبل أن يتمرد الواليان الحلو وعقار، وبالمناسبة أنا أعيد ترسيم هذه الخطوط التاريخية لأن بعض ربعنا يراهنون على ضعف ذاكرتنا، ليصنعوا من عمليات تغييب عقولنا جسوراً يمررون عليها مخططاتهم الخبيثة، لهذا وذاك علينا عند كل منعرج وطني أن نمارس بعض عمليات تنشيط ذاكرة الشعب حتى تفتضح مخططاتهم الواهية، فالحرب التي نشبت مؤخراً في ولايتي الحلو وعقار لم تخطط لها القوات المسلحة ولم تبتدرها، فالعالم كله يشهد بأن الحركة الشعبية لتحرير السودان قد دخلت انتخابات جنوب كردفان بشعار «النجمة أو الهجمة»، وهذا يعني شيئين اثنين، إما أن تصوت الجماهير لصالح «نجمة الحلو» أو بالعدم لا محالة ستكون الهجمة، فلمّا تخلفت النجمة كانت الهجمة الغادرة، وكذلك في النيل الأزرق أبت الحركة الشعبية إلا أن تسجل حالات غدر شاهقة هي الأخرى، فلما كان المواطنون يحضرون مشاعرهم وأشواقهم لعيد الفداء، كانت في المقابل تجهز حركة السيد عقار لحالة غدر وتمرد على النحو الذي تابعته كل الجماهير. إذن الحكومة لم تبادر بهذه الحرب الأخيرة، فالحكومة أصلاً لا تنقصها الاحترابات، لكن الحركة الشعبية هي التي فرضت واقع الحرب الأخير هذا، فكان على القوات المسلحة وفق القانون والدستور، أن تضطلع بمهامها ودورها المقدس في هاتين الولايتين، فكما خسرت الحركة الشعبية السلام فهي تخسر الحرب، أيام قلائل تفصلنا عن إعلان الجيش بأن النيل الأزرق، أرض الوطاويط والفونج والتاريخ، خالية تماماً من التمرد، وفي المقابل إن الأمور في ولاية المجاهد أحمد هارون تسير لصالح طرد المتمردين من تلك الجبال. قد يقول قائل كل ذلك معلوم ومفهوم فما الجديد! الجديد هو نشاط بعض القوى الداخلية المناصرة للحركة الشعبية من أحزاب جوبا، تنشط هذه الأيام في رفع شعار «لا للحرب» على أن أزمات البلاد لا تحل بالبندقية وإنما تحل بالحوار والسلام. وهي لعمري كلمة حق أريد بها باطل، فاعلم عزيزي القارئ، يا رعاك الله، أنه كلما كثر العويل والصراخ هنا للسلام، اعلم أن الحركات المسلحة هناك وفي كل الأصعدة تمر بموقف حرج، وأن المسألة لا تعدو أكثر من إتاحة «التقاط أنفاس» حتى تعيد الحركات صفوفها من جديد، وقد يتطور الأمر إلى جر الحكومة لصناعة نيفاشا أخرى! فنحن هنا ننشط ذاكرة الجماهير، بأن دموع التماسيح التي تذرف هنا بكثافة هذه الأيام لأجل السلام ما هي إلا خدعة جديدة قديمة لخدمة هدفين اثنين؛ إنقاذ المتمردين وفك الحصار المحكم حول كل مواقعهم، والهدف الثاني وصم الحكومة بأنها هي التي تدق طبول الحرب ولا تسعى للسلام، وإنه لعمري السلام الخطأ في التوقيت الخطأ! ولتدرك الجماهير أيضاً أن بعضاً من شظف العيش الذي نعيشه الآن هو بسبب الحرب التي لم نصنعها ولم نختار ميادينها ولا مواقيتها، فلا يعقل أن تدير الحركات المسلحة حرباً ضد الدولة السودانية، وفي المقابل أن عناصر الطابور الخامس بالداخل تدعونا إلى أن ننتهج لغة الحوار مقابل الرصاص الذي يتساقط علينا! للذين يحلمون بنيفاشا، لا أتصور أن نيفاشا الأولى تركت لنا بعض الذكريات الجميلة تشجعنا لصناعة المزيد من «النيفاشات»، إنها غلطة واحدة لا ولن تتكرر وأن المؤمن لا يلدغ من حجر مرتين. مخرج.. قوموا لمقاومة المرتدين عن قيم الإخلاق والوطن والدين ورصوا صفوفكم إن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج..