منذ مدة والناس يكتبون ويتحدثون عن الأخطاء الكبرى التي تضمنتها اتفاقية نيفاشا التي على الرغم من إيقافها للحرب المنظمة في الجنوب، إلا أنها شكلت أرضية لحروب أخرى هي التي نعاني منها اليوم، على الرغم من تقديرنا لجهود من وقعوها من المؤتمر الوطني، والذين بالطبع لم يقصدوا سوى التأسيس للسلام المستدام، ولكنهم أخطأوا في تفاصيل خطوات الطريق رغم نيل الغاية وهي السلام رغم نقصانه. مشكلة اتفاقيات السلام كلها أنها تُوقع تحت ظلال الوجود والإشراف الأجنبي الذي يضع الفخاخ ويضع السم في الدسم، وفي النصوص المعممة التي يوقع عليها المفاوض الحكومي تاركاً أمر تفسيرها للأيام والتطبيق العملي الذي لم يزدها إلا تعقيداً. مشكلة النيل الأزرق وجنوب كردفان وأبيي تتجلى فيها الخدع بصورة بائنة، فمجرد إدخالها ضمن أجندة التفاوض كان مدخلاً واضحاً بأن الحرب ستدور رحاها بعد انفصال الجنوب، وأن المسألة مسألة زمن، فإدخال المناطق الثلاث كان مقدمة واضحة بأن جنوباً جديداً سيولد بعد انفصال الجنوب الحقيقي، ولا أدل على ذلك من وضع عقار لعلم دولة الجنوب في المؤتمر الصحفي الذي عقده بالكرمك. تآمر الغرب ومكائده لا يعني أنها أمور ليس من الممكن مقاومتها، بل أن المعركة الآن أمام القوات المسلحة تبدو أكثر وضوحاً للقوات المسلحة التي خاضت حرباً أكثر شراسة وضراوة مما هو حادث الآن في النيل الأزرق وجنوب كردفان. وتمرد عقار والحلو ليس أمراً يرفع له حاجب الدهشة، فهو متوقع قبل ذلك بكثير، بسبب ما يسمى بالمشورة الشعبية في الولايتين التي نصَّت عليها نيفاشا، وأراد عقار والحلو الذهاب بها بعيداً لدرجة حق تقرير المصير، وتمرد عقار بدأ منذ أن ذكر بالحرف الواحد أن ما قام به الحلو في جنوب كردفان يعد دفاعاً عن النفس، ومنذ أن أصبح يتعامل مع الخرطوم بندية بوصفها دولة منفصلة، لدرجة رفضه الحضور للخرطوم واستقبال المسؤولين في الدمازين، بل حتى رئيس الجمهورية نفسه قال إن تمرد عقار متوقع بعد حواره المنشور مع صحيفة «السوداني» في رمضان الفائت. والأمر الذي نرفع له حاجب الدهشة هو أن يكرر المؤتمر الوطني خطأ نيفاشا بتعامله المتهاون مع التمرد الجديد، وإن بدأت الآن الحكومة تأخذ الأمر مأخذ الجد إلا أنه كان يمكنها اتخاذ خطوات مبكرة لصد التمرد وإيقافه عند حدوده قبل أن يستأسد. المؤتمر الوطني في انتخابات جنوب كردفان أطلق تصريحات فيها كثير من التهاون لصالح الحركة الشعبية، واستجاب لعقار في الانتخابات الأخيرة على إثر تهديده الشهير «يا النجمة يا الهجمة»، وحينما ضمن تنازل الوطني لصالح النجمة قام بالهجمة، فعقار أراد الاثنتين النجمة والهجمة، رغم أن المؤتمر الوطني كان يحسب أن إسكات مالك عقار بحكمه لولاية النيل الازرق سوف يغير من عقليته المتمردة، وأتى اتفاق أديس أبابا الذي رفضه المؤتمر الوطني واعترف بالحركة حزباً في الشمال رغم تمرد نائب رئيسها في جنوب كردفان. لا شيء إذن أغرى الحركة الشعبية بالتمرد أكثر من تهاون الخرطوم في قتل الفتنة في مهدها، وستكون مصيبة لو صح ما أوردته بعض الصحف قبل أيام بأن المؤتمر الوطني لمَّح إلى إمكانية عودة عقار والياً للنيل الأزرق، حتى إن اتصل بنائب الرئيس معتذراً حسب ما جاء في عناوين الصحف، فاعتذار عقار يأتي من باب «الكيشة دقو واتعذر ليهو)، ولا يوجد في الدنيا دولة تتهاون مع متمرديها مهما كانوا. نيفاشا الآن اكتملت فصولها بانفصال الجنوب، وأمر المشورة الشعبية يجب أن يصبح في خبر كان، طالما أن المتمردين الذين وقع معهم الاتفاق انفصل منهم من انفصل بدولته وتمرد منهم من تمرد، فلا أحد اليوم يطالب بحقه في المشورة الشعبية التي ليس لها أي مردود إيجابي تنموي على مواطني النيل الأزرق وجنوب كردفان، فهي فقط استحقاق دستوري عادي انتهى بتمرد عقار والحلو. الآن الحكومة أمامها فرصة ذهبية لإغلاق ملف المناطق الثلاث وعدم فتحه مجدداً مهما كان تحت أية مبادرة دولية التي لن تزيد من شأن السودان إلا تعقيداً، وكل ما عدا الجنوب المنفصل بدولته يجب أن يُعامل باعتباره ولاية شمالية، دون فتح أي مجال لوضع دستوري خاص لأية منطقة، فكلها ولايات شمالية تسودها قيم مشتركة في الدستور، ولا تفرق بينها إلا بعض الفروقات الثقافية التي لا ترقى لدرجة الفصل الدستوري التام، فالدمازين ودنقلا وكسلا وكادوقلي والدلنج وود مدني كلها في مركب واحد، لا نجمة ولا هجمة ولا يحزنون.