د. بابكر محمد توم رئيس اللجنة الاقتصادية الأسبق بالمجلس الوطني لأكثر من عدة دورات، يعتبر واحداً من أميز الخبرات الاقتصادية السودانية، يمتاز بقوة الطرح في تناول المشكلات الاقتصادية ودقة التحليل، وله جرأة فائقة في الحديث بكل شفافية. جلسنا إليه خلال هذا الحوار وطرحنا عليه العديد من القضايا الاقتصادية التي يواجهها السودان، بداية بقضية مخصصات الدستوريين التي أُثيرت في البرلمان والمشكلات الإيرادية التي تواجهها الميزانية الآن، بجانب قضية النفط والتجارة مع الجنوب، إضافة إلى حديثه عن الشركات الحكومية وقضايا الاستثمار وآلية مكافحة الفساد، وهي كلها قضايا تناولها بدقة تحليلية كاملة مصوباً حديثه نحو المعالجات.. فلنطالع إفاداته: { برأيك ما سبب الصراع الدائر الآن بين المركز والولايات في شأن العلاقة المالية وشكوى بعض الولاة من ظلم وزارة المالية؟ - وزارة المالية ضحية وتنطبق عليها مقولة (ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء)، فوزارة المالية محكومة بموارد معينة لا زيادة فيها ضرائب كذا جمارك عائد بترول، الأخير خرج من الموارد من أين لها؟.. ثانياً (30%) من إيرادات الموازنة تذهب للولايات كدعم والمالية تعمل في إطار شفافية واضحة، أضف لذلك كل الموارد تنزل في الصندوق القومي للإيرادات الذي تتحكم فيه مفوضية تخصيص الإيرادات وهي آلية تديرها خبرات اقتصادية ليس لها أي محاباة للمالية لان مهمة هذه المفوضية توصيل هذه المبالغ للولايات دون أن تمر عبر وزارة المالية، لكن التنمية الناس تذهب بها للمالية وأنا أفتكر أن وزارة المالية في هذه الشهور يجب ألا يكثر عليها الهجوم لأنها شهور جفاف إيرادي. { طيب بماذا تفسر شكوى هؤلاء الولاة من ظلم المالية لهم صراحة؟ - هناك رغبة لدى هؤلاء في زيادة مواردهم أو الحصول على المخصص لهم وهذا من حقهم لإقامة مشروعات التنمية من حقهم أن يصروا على أخذ نصيبهم لكن مثلما هنا ميزانية توجد ميزانية تسمى ميزانية التدفقات النقدية وهذه غير موجودة، أنا قلت أعطيك ميزانية (600) مليون شهرياً جئت لأخذها ولم تجدها تصر على أن تسلفها من بنك السودان، أنا برضو عندي حدود يعني المسألة واضحة لا توجد تدفقات نقدية وأنا مقر بهذه الميزانية وهذا يجب أن يقدر. { لكن المالية تتعامل معهم كأن الحكم المركزي موجود وليست هناك فيدرالية مالية؟ - هذه الفدرالية تطبقها مفوضية الإيرادات التي تتحكم في الإيرادات وليس وزارة المالية. { هل من حق وزير المالية منح بعض المحليات أموالاً متجاوزاً الأسس المتعارف عليها فيدرالياً كما قال كاشا؟ - نعم هذا ممكن لأن هناك مبالغ تسمى احتياطات تكون لدى الوزير يمكن لأي معتمد أن يلجأ لوزير المالية يطلب من الاحتياطي ويعطي منه لاستكمال بعض النواقص في المشروعات مثل المدارس والمستشفيات وغيرها ويمكن للوزير أن يعطيه من هذا الاحتياطي وهو مبلغ غير كبير وليس من ميزانية الولاية ولا يخصم منها وهذا ليس تجاوزاً في الميزانية أو محاباة وكثير من المعتمدين يطلبونها في حدود معينة. أنا لا أريد أن أقول إن الهجوم على وزير المالية غير مبرر لكنه في حاجة لمساعدة الناس له في هذه الفترة وهو يعمل بكل إخلاص لكن الموارد تخذله وهذه ليست مسئوليته وإنما مسؤولية الدولة كلها. { إلى أي مدى ترى أن الولايات معتمدة على نفسها مالياً؟ أنا ما «عاوز» أهاجم لكن في بداية إنشاء الولايات قالوا كل ولاية تعتمد على نفسها وكل ولاية ستصبح منارة استثمارية، الآن انظر نحن أين الآن كل الولايات ما عدا الخرطوم تعتمد على المركز أكثر من اعتمادها على نفسها في توظيف مواردها المحلية، يعني كل ولاية تأخذ من المركز أكثر مما تجمع من موارد ولو عملت هذه الولايات استثماراً لاعتمدت على نفسها لكن كلهم «جايطين ساكت» وغير مهتمين بالاستثمار و«ما شافوا الدنيا وصلت إلى أين والعالم كيف يستثمر». { يعني بدلاً من التقدم بالحكم الاتحادي وتحقيق اكتفاء ذاتي عبر الولايات زادت في الاعتماد على المركز؟ - هذه حقيقة الآن، هناك كثير جداً من المواطنين يقولون ماذا استفدنا من الحكم الاتحادي، فقط إرضاء ناس قليلين لكن السواد الأعظم من عامة الناس «ما دايرين والي ولا حكم، عاوزين مدارس ومستشفيات»، وحقيقة ما يضيف لمثل هؤلاء إن أعطيتهم والياً ومعتمداً ووزيراً، فعمل مستشفيات ومدارس أهم لهم من إثقالهم بنفقات والي ولاية. { إذن كيف ترى الصرف مقابل ما ذكرت؟ - للأسف نحن اليوم في الولايات مثل المركز نصرف على الجهاز التنفيذي أكثر من ما نصرف على التنمية و«ما عاوزين نجيب» تجارب العالم لتسهيل إجراءات التجارة والاستثمار. { كيف ترى الجدل الدائر بين المركز والولايات؛ المركز يقول إنه مثقل بحمل الولايات، والعكس الأخيرة تقول إن المركز مكبلها؟ - هذه حقيقة، المركز «شايل الولايات»، والسؤال المربك مكبل الولايات «في شنو»؟ هناك سياسة كلية لازم الولايات تكون طرفاً فيها، يعني المركز عمل له بنكاً مركزياً وعمله خاص به «ما في سياسات لابد للولايات أن تتبعها». { ما رأيك في السلطات الممنوحة للولايات؟ - في رأيي الولايات أخذت سلطات أكثر مما يجب بالذات في الجانب الاقتصادي أفتكر من الواجب أن تحتكم السياسات الاقتصادية الكلية في الاستثمار والضرائب والجمارك. { يعني نحن لدينا فهم مغلوط في تطبيق اللامركزية؟ - نعم نحن مكنا الولايات لدرجة جعلتها تتغول على اختصاصات المركز، في هذه الجوانب نحن لسنا ضد منح الولايات الحريات والمجالس التشريعية وغيرها، لكن من مواردها يعني ما في الآخر نجدها معتمدة على موارد المركز وغير مقرة بفضله (هسع) الطرق القومية والخزانات كلها قام بها المركز وأصبحت استثماراً للولايات ولابد أن يكون هناك تعاون وثيق في السياسات الاقتصادية وسياسات الاستثمار بين المركز والولايات لأن هذه مصلحة قومية، «يعني هسع لو قوينا الولايات وأضعفنا المركز في النهاية الدفاع والأمن والسياسات الخارجية مسئولية من؟ «مش المركز»؟!. { إذن ما المطلوب عمله لحل هذه المعضلة؟ - يجب أن نطوّر هذه القوانين بما يخدم مصلحة مشتركة بين الطرفين. { هناك كثير من اتفاقيات الاستثمار توقع لكن غير ظاهرة الآن على أرض الواقع ما السبب؟ - العلة في وجود تقاطعات قانونية في وقت تقول فيه الدولة إن الاستثمار الأجنبي مركزي لكن عندما يمنح أي مستثمر مشروعاً في أي ولاية ترفض منحه مساحة الأرض التي خصصت له أو تكون هناك صراعات وقوانين محلية خاصة بالأرض أو بالاستثمار وهذا ما خلق شكوى دائمة من المستثمرين، لذلك تجد المركز يخاطب الولايات باستمرار ويطالبها بإزالة العوائق وتسهيل الاستثمار رغم ذلك تجد هناك قوانين متعارضة مثل الرسوم والجبايات وكلما عمل المركز قراراً تجد رؤية الولايات بعيدة عن المركز وهذا ما خلق هذه المشكلات والشكاوى. { ما المعالجة الأنسب لفك هذه الازدواجية والتداخل في الصلاحيات بين الولايات والمركز؟ - لمعالجة ذلك تم تشكيل مجلس أعلى للاستثمار يرأسه رئيس الجمهورية وليس وزير الاستثمار ويخاطب الوالي لأن الوزير والوالي قانونياً في مرتبة واحدة، وعين لهذا المجلس أخونا السفير أحمد شاور مقرراً له، والقانون عدّل في عام (2012) وسيدخل للبرلمان لإجازته وتمت الاستفادة فيه من كل قوانين الاستثمار الموجودة في المنطقة وبموجبه أنشئ المجلس الأعلى للاستثمار الذي يرأسه رئيس الجمهورية حتى تكون المخاطبات التي تصدر منه؛ أي المجلس، أعلى من الولاة الذين كانوا لا يستجيبون لمخاطبات وزير الاستثمار وصدر توجيه لكل الولايات بإنشاء مفوضية استثمار يرأسها وزير ولائي تهتم بالاستثمار وطلب من كل ولاية أن تقدم رؤيتها وأنا حضرت مناقشة رؤية ولايات كسلا وشمال كردفان وسنار فيها مشروعات مدروسة وحددت أراض للاستثمار، وأقول للإخوة الولاة ليس هناك مخرج إلا بتشجيع الاستثمار ولا نقول عندنا موارد ويفترض أن نمنحها للمستثمرين لأننا لسنا الوحيدين في العالم وهناك دول حولنا ولديها موارد ولذلك حتى ننافس يجب أن نبسط الإجراءات. { هناك فهم سائد بأن المستثمرين يستولون على أراضي السكان دون تعويضهم؟ - هذه الإشكالية ليس السبب فيها المستثمرين وإنما الولاة مثلاً عندما يخصص المركز مساحة لمستثمر في أي ولاية يذهب ويقابل الوالي وبدلاً من اتباع قانون تسوية الأراضي المعمول به ويعوض أصحاب الأراضي الذين لهم تسجيل رسمي أو ما يعرف بوضع اليد لكن الولاة يختصرون هذه الإجراءات ومراحلها ويلجأون للقرارات الفوقية لذلك تجد المواطنين يتجمعون ويعتدون على المساح ويكسرون معداته ويطردونه وهذا حدث في أكثر من مرة ما يؤدي لإحجام المستثمر، سواء كان وطنياً أو أجنبياً وأصبحت نظرة الأهالي للمستثمرين بأنهم مستعمرون، بسبب هذا الإجراء أو التصرف غير السليم من الوالي، وهي نظرة أشبه بما حدث في جمهوريات الموز في أمريكا اللاتينية، لذلك لابد أن يحدد حق هذا المواطن المسكين قبل حق المستثمر.. وأن يلزم المستثمر بتوفير فرص عمل للسكان المحليين وأن يقدم خدمات. { ما رأيك في أن الشركات الحكومية والقرار الصادر بتصفيتها؟ - نحن ظللنا باستمرار نقول إن الشركات الحكومية تشكل عبئاً على الدولة ونريد شفافية كاملة في ما يخص الشركات الحكومية في إحدى المرات قلت الشركات لا يعلم بعددها إلا الله، هناك جهات حكومية عليا «زعلت مني»؛ كيف أقول هذا الكلام والليلة تجد شركة قامت وتقوم أخرى «بكره وهكذا دواليك». وأصبح الأمر أشبه برد الوليد بن طلال عندما سئل عن دخله، رد على سائله قائلاً: (الساعة كم؟)! هناك جهات تنشيء شركات دون الرجوع لأي جهة. { ما الداعي لقيام هذه الشركات في الأساس؟ - الغرض من إقامة هذه الشركات الحكومية خدمة الاقتصاد وليس الفئة التي عملت الشركة، لكن من الواجب ما دام القطاع الخاص هو الذي يدفع الضرائب ويؤسس للتنمية من باب أولى أن تتاح له الفرصة في السوق وأنا لا أقول هذا الحديث نظرياً وإنما العالم كله (ماشي كده)، كيف أنت تتحدث عن تخفيض الجهاز الحكومي وتأتي من جهة أخرى وتنشيء شركات حكومية مخصصات ورواتب مديريها أكبر مما يتقاضاه الوزراء!، لذلك يجب أن تصفى هذه الشركات بطريقة شفافة ولا نعود إليها ورغم صدور قرار تصفيتها الآن هناك جهات التفت على هذا القرار ولم تصف شركاتها تصفية كاملة. { أشرح لنا كيف تم هذا الالتفاف على القرار؟ - مثلاً صفينا شركة تابعة لجهة معينة، هذه الجهة تكون تأخذ عائدات من هذه الشركة لتسيير وخدمة أعمالها، نحن مفروض في هذه الحالة نضع لهذه الجهة البديل الكافي من الميزانية في حدود المتاح «مش نقول ليها اعملي شركة» لتحقق لك ربحاً لتدعمي به ميزانيتك وإن كنا في مرحلة سابقة اعتقدنا أن هذه الشركات تخدم لنا أجهزة معينة، هذا الكلام فات أوانه بالكامل من الميزانية وبشفافية ووضوح من الدولة، لكن أن تعمل شركات هذا جعل الدولة (فوق) اعتمدت على هذه الشركات ومرات كثيرة هذه الشركات لا أحد يعرفها فجأة تجد شركة قامت باسم علاقة له بالجهة التي تتبع لها، في الآخر تكتشف أنها شركة حكومية وشركات تصفى لكن هناك بعض الجهات تلتف تقول لك أساساً هذه الأصول كانت حقتنا وعملنا شركة جديدة. { إذن مسئولية منع هذا الالتفاف على قرار تصفية هذه الشركات؟ - طبعاً هذا شغل وزارة المالية إن لم تقم بهذا الدور وتطبق القرار بحزم وتراقب نتائجه يصبح الأمر مثل قول الشاعر (زعم الفرزدق أنه سيقتل مربعاً فابشر بطول سلامة يا مربعا)، يجب أن «تدق المالية صدرها» وتواجه الأمر وأنا افتكر هناك جهات كثيرة عندها شركات ولا تريدها وتسعى للحفاظ على سمعتها ومكانتها، لذلك تريد ميزانية واضحة تخصصها لها الدولة تمكنها من أداء دورها وهنا أنا أشيد بدور المراجع العام في مثل هذه المسائل ونحن محتاجون لمزيد من الضوابط. { ما الأضرار التي ترتبت من قيام هذه الشركات؟ - في المبتدأ هذه الشركات شغلت كثيراً من المسئولين من القيام بمهامهم بتركهم لعملهم الأساسي وركزوا في هذه الشركات التي أصبحوا ينتدبون لإدارتها ولأنهم غير مدربين في هذه المجالات أو ليسوا رجال أعمال، الأمر الذي ألحق أضراراً وخسائر بالغة بالقطاع الخاص لأن هذه الشركات أصبحت منافساً في السوق بالامتيازات الممنوحة لها، ما أضر بأداء القطاع الخاص وقلل عائد الدولة، يعني هذه الشركات «ما جابت عائد للدولة وحرمتها من توسعة عائد القطاع الخاص»، وهناك بعض الجهات كانت مؤسسات حكومية خصصت نفسها ونحن نريد خصخصة واضحة ونحن لديا لجنة اسمها المسئولية الاجتماعية وهذه الشركات لها قوانين يجب أن تلتزم بها ولا توجد شركة حكومية رابحة وإن ربحت يكون الخاسر القطاع الخاص، في الآخر النتيجة خسارة الاقتصاد لأن الذي يدير القطاع الخاص هو الذي يديره وليس القطاع العام الذي مهامه واضحة؛ مجالات الأمن والدفاع والخارجية، وكما قلت لك إن كنا نعتقد أن هذه الشركات تخدم جهة بعينها فهذا أمر فات أوانه. في الآخر نجد عدم الانضباط الموجود في الدولة موجوداً في الشركات الحكومية لا تراجع حساباتها وتؤجلها والبعض يتمرد على المراجع العام وفي النهاية لا تصمد في إطار الاقتصاد الكلي وتمشي للجهات التي أنشأتها وأنا لا أريد أن أقول أفسدتها وأبطأت عملها لكن هذه ليست مهمة هذه الجهات التي تدير هذه الشركات وإنما مهمتها القيام بمهامها وتأخذ موازنتها بالكامل من ميزانية الدولة.