رحم الله الموسيقار محمد عثمان وردي بقدر ما أعطى من فن أصيل، شكَّل به وجداننا نحن أهل السودان عاطفياً واجتماعياً وثورياً وتحررياً. فهو المبدع الوحيد في السودان الذي عرف ظلمة سجون الأنظمة السياسية، وهو الوحيد أيضاً الذي اضطر لأن يعيش خارج وطنه بسبب مواقفه السياسية، لا لُجرم جنائي ارتكبه. رحل وردي بعد أن أنهكه المرض وفعلت السنوات فيه فعلتها، ورغم ذلك مات وهو أجمل المسنين في السودان طلعة وعقلاً وحديثاً، مات وردي فماتت معه الأغنيات الكبيرة التي كانت ستخرج للناس، وبرحيله خلا الفضاء لقراصنة التقليد وصانعي الغناء الهابط. فإن فن الغناء في السودان ظل رموزه يتساقطون بسرعة رهيبة ملبين نداء ربهم سبحانه وتعالى. من مطربين وموسيقيين بدرجات علمية رفيعة ولم يتبق منهم إلا القليل يعرفهم الشعب السوداني بأسمائهم ومقاماتهم الرفيعة. فإن مضوا فعلى الدنيا السلام، لأن الواقع يقول إن وردي ومعاصريه من أهل الموسيقى والطرب هم آخر جيل العمالقة. وأودع الموسيقار محمد وردي بآخر ما كتب شاعر الروائع إسحاق الحلنقي وهو يقول: نحنا ما بنمسك دموعنا لما نسمع لو بهمسة أما نور العين غرامنا مالو لو أهدتنا لمسة أنت يا وردي المشاعر يا البقت للموجة مرسى كيف يقولوا عليك مفارق وإنت عايش فينا لسه خروج أول: { لا أتفق مع المطرب الدارفوري أحمد شارف في هجومه الأسبوع الماضي على علماء الموسيقى في بلادنا وعلى كلية الموسيقى، ويكفي أن (هؤلاء الدكاترة) وهذه الكلية التي كانت معهداً يرجع لهم الفضل في رفع درجة المطرب من «صايع» في عشرينيات القرن الماضي إلى مهني ومثقف صاحب درجة علمية كبيرة معترف بها من كل جامعات العالم. وأصبح الموسيقي والمطرب شخص تتشرَّف كل أسرة محترمة أن تهبه كريمتها ليقترن بها ويفاخرون به. كما أن هؤلاء الدكاترة هم من علَّم الموسيقيين كتابة النوتة الموسيقية، بل هم من أزال الأمية الموسيقية وأصبح كل موسيقى ومطرب يحمل أعماله على الورق أو يرسلها كحروف موسيقية إلى أي جهة في العالم ليُخبر عن نفسه وفنون بلاده، بجانب عطاؤهم الثر المتمثل في مئات المقطوعات والألحان. ولعل لشارف ظروفاً خاصة جعلته يرمي بهذا الهجوم، غير أن العديد من المتابعين يقولون إن أحد هؤلاء الدكاترة هو الذي وضع المطرب أحمد شارف في طريق الفن في بداياته وقدم له الرعاية حتى أصبح نجماً. وتظل كلية الموسيقى والدراما شُعلة الفن الأولى والوحيدة في السودان. ولولاها لعدنا لعصر «الصياع» مرة أخرى. خروج أخير: حالة الحداد الطويل التي دخلت فيها صحيفة فنون العزاء عقب رحيل مطرب السودان وردي تخبر عن معدن رئيس تحريرها الزميل هيثم كابو وكل الكوكبة النيرة من الزملاء بها، وخاصة الزميلة محاسن عبد الله صاحبة الواجب والقلب الكبير. فلهم التحية (إنا لله وإنا إليه راجعون).