{ قلنا للأستاذ محمد أحمد السلمابي: دعنا نسألك في المبتدأ عن طفولتك الباكرة، وهل كان لك من العلم نصيب؟ - قال: دعني أولاً أصحح لك اسمي (محمد أحمد)، أما اسم والدي (عبد الله المسلمابي) والمسلمابي ترجع إلى انتمائنا إلى قبيلة المسلماب ولقد حدث تحريف في كملة (المسلمابي) فأصبحت مشاعة ب (السلمابي). وفي مرحلة لاحقة لحياتي الباكرة أسهمت في بناء الاسم المحرف (السلمابي) لأني داومت على التوقيع به وإمضاء رسائلي ومقالاتي الصحفية. ومضى يقول: ولدت في قرية كركوج بمنطقة الفونج 17 مارس 1920 من أسرة توصف بالفقر وفي عام 1926 التحقت بالمدرسة الأولية وتخرجت فيها في العام 1930، ولم يقدر لي أن أنتقل إلى مرحلة التعليم الأوسط بالرغم من أنني كنت على توالي سني دراستي أول فصلي، وذلك لأن والدي كان فقيراً ويعمل في الزراعة بجهده وحده وله (تشاشة) برأس مال لا يتعدى أصابع اليدين، لذلك انقطعت عن الدراسة وفي نفسي حسرة طفل يود أن يقفز في سلم التعليم، وصاحبت والدي أعينه على الزراعة. { جرسون وطلبة ومساعد لوري أرسل الأستاذ السلمابي نظرة عميقة إلى سقف مكتبه الفاخر ثم تمطى في كرسيه وقال مستعرضاً شقاء طويلا: استقبلت شبابي الباكر في السادسة عشرة والسابعة عشرة عاملاً في ضروب مختلفة من الأعمال، لقد عملت كمساعد لسائقي اللواري.. وعملت طلبة أنقل التراب على ظهري بقرشين في اليوم في مشروع أبو العلا، وعملت صبي دكان ثم هاجرت إلى القضارف لأن لي فيها بعض الأقارب وهناك عملت أيضاً صبي دكان، وعملت جرسوناً في مقهى، ومتحصل أملاك، ثم افتتحت مكتبة لبيع الصحف المصرية. { الوظيفة النادرة وعندما جاد الزمان بوظيفة في الجيش لأعمل (تايم كيبر) وليعمل الأستاذ عبد الله رجب مخزنجياً وكذلك الأخ آدم إبراهيم براتب قدره ستة جنيهات في الشهر، أصر المسؤول عن تشغيلنا أن تكون له رواتب شهرنا الأول فلم نعترض. { بداية العمل الصحفي لقد مارست العمل الصحفي كمراسل إقليمي ودفعني إلى ذلك شغفي بقراءة الصحف السودانية والمصرية على السواء وكنت ساعتها من المعجبين بالمغفور له الأستاذ أحمد يوسف هاشم، وفي اعتقادي أن أول كتاباتي للصحف كانت في عام 1942 في جريدة (النيل) ومن رسائلي التي سجلت كأول سبق صحفي للصحافة السودانية رسالة عن المفتش البريطاني الذي أحرق قرية بأكملها وقد كشفت فعلته وهاجمته هجوماً شديداً، ولقد تصاعدت مشكلة هذه القرية حتى جرى بحثها في مجلس العموم البريطاني. أريد أن أقول إنني لم أكن أكتب وقتها لصحيفة (النيل) فقط بل كنت أكتب ل (صوت السودان) ولمجلة (فور أوي نيوز). { العمل مراسلاً ل (الرأي العام) وعندما فكر الأستاذ إسماعيل العتباني مع أصحابه في إنشاء صحيفة (الرأي العام) طلبوا إليَّ أن أكون مراسلاً إقليمياً لها، ثم بعد فترة استدعوني للمجيء إلى الخرطوم لكي أعمل محرراً متفرغاً بالجريدة براتب قدره (21 جنيها)، وكنت وقتها المسؤول عن الأخبار السياسية، وأحرر باباً بدأته تحت عنوان (كلمة ونصف)، ثم (الموقف الداخلي)، ثم (من يوم إلى يوم). ومن الأحداث الرئيسية التي غطيتها كمحرر في (الرأي العام) أنباء أول نشوء حركة عمالية تعنى بشؤون عمل السكة الحديد، إذ سافرت إلى عطبرة خصيصاً وعملت على مساندة العمال وخلقت زوبعة صحفية مع مدير السكة الحديد، كذلك كنت أغطي ما يدور في جلسات المجلس الاستشاري. { صوت السودان وبعد سنتين من العمل في (الرأي العام) استدعتني أسرة (صوت السودان) لأعمل رئيساً لتحريرها وكان عرضاً مغرياً فعملت بها براتب قدره (خمسون جنيهاً) حتى عام 1955، وأثناء عملي بها اتفقت مع الدكتور حسني خليفة في مصر على إنشاء وكالة الأنباء المصرية كمجهود فردي رأسمالي بجهاز تسجيل هنا أملكه أنا وجهاز هناك في القاهرة نتبادل فيه على التلفون شريط الأنباء. ولكن عندما قامت الثورة المصرية لم يكتب لهذه الوكالة الدوام إذ رأوا أن يسيطروا عليها وكانت الأخبار المرسلة من السودان لا تعجبهم ففصلت من الوكالة وتابعوا ملاحقتهم لي حتى تم فصلي من (صوت السودان) نفسها إذ كان وقتها إسماعيل الأزهري وزيراً للداخلية بجانب رئاسة الوزراء وهو الذي أصدر أمراً بفصلي. { عطف السيد علي لقد كان مولانا سيادة الزعيم الراحل السيد (علي الميرغني) وقتها في بورتسودان وكان هنا في الخرطوم جانب من مجلس الإدارة يقف بجانبي مثل السيدين (الدرديري محمد عثمان وميرغني حمزة) وكان المرحوم السيد/ نور الدين، على رأس من يهدفون إلى عزلي وشهادة للتاريخ فإن نزعتي الاستقلالية لم تكن موضع غضب من سيادة السيد علي بل كان يبارك خطواتنا ولم يقف قط ضد المد الاستقلالي الذي اتخذته مداراً لكتاباتي. { دار الإعلان قال: مع أنني كنت غاضباً لفصلي من (صوت السودان) إلا أنني فكرت في إنشاء عمل جديد يكون له من الابتكار نصيب فقررت إنشاء دار للإعلان. { قلنا للأستاذ السلمابي: حدثنا عن دار الطباعة كيف نمت وتطورت حتى أنجبت أختها (دار التغليف)؟ - قال: إن دار الطباعة توسعت في أعمالها حتى أنشأت دار التغليف وهذه الدار بشقيها تعتبر كوحدة واحدة أكبر دار في أفريقيا والشرق الأوسط، ربما كانت هناك دار أكبر منها في الشرق الأوسط لكنها في الطباعة على حدة وفي التغليف على حدة، أما كوحدة واحدة ما أحسب أن هناك داراً أكبر منها في أفريقيا والشرق الأوسط. { وبكم تقدر قيمة أجهزة الطباعة؟ - مليون ونصف المليون جنيه. { إذن يا أستاذ سلمابي أنت مليونير؟ - هز كتفيه ضاحكاً في بساطة وقال: لك أن تقدر ما تشاء على أنه ينبغي أن أذكرك بأن هاتين المؤسستين شركة محدودة. { يا سيدي المليونير هل لك أن تحدثنا عن العوامل التي نحسبها من العناصر الأساسية في نجاحك؟ - قال: أولاً: تعودت أن أكون أميناً مع نفسي ومع عملي ومع الآخرين بحيث لا أدع مجالاً لخداع النفس أو غش الآخرين. ثانياً: ظللت على تجربتي أن الإنسان ينبغي أن يفكر دائماً في التجديد، ومن أسف أن آفة السودانيين التقليد دائماً وهو الطريق السهل لكنه محاط دائماً بظلال الفشل. ثالثاً: ظللت أحب عملي حباً عميقاً وكل محب للنجاح عليه أن يحب عمله ويتفانى فيه. رابعاً: إن التقليد ظل يصاحب مبتكراتي الجديدة في دار الطباعة والتغليف لكني دائماً كنت أفكر في ما هو جديد حتى إذا ما فكر المقلدون في ملاحقتي أسبقهم بسنوات لا تقل عن خمس سنوات. خامساً: الدقة في العمل فما اشتريت ماكينة بالمراسلة وإنما لا بد أن أشد الرحال للمعاينة وأسافر مرة كل عام على الأقل للخارج. { هل لك أن تعطينا فكرة عن دورك ومنجزاتها؟ - قال: بدأت بالكراسات ثم الجوابات والظروف ثم الطباعة الملونة للعلب وغيرها والأكياس وورق الصابون..الخ. الأضواء 2/3/1968