تعليق سياسي فهم كثير من الصحافيين تصريحات النائب البرلماني ومدير جهاز الأمن والمخابرات السابق؛ الفريق صلاح عبد الله «قوش»، المنشورة على «الأهرام اليوم» أمس الجمعة بخصوص إشادته بجهود وحدة تنفيذ السدود، وإصراره على أنه لم يقصد مهاجمة الوحدة، بأنها تراجع عن ما قاله أمام البرلمان «إن مشروع سد مروي لم يحقق الفائدة المرجوة منه»، لكنها في تقدير آخرين ليست كذلك، وإنما إعادة إرسال لما كان يهدف إليه الرجل من تصريحاته أمام البرلمان، فقد شدد «قوش» أيضا على أنه تحدث عن الجدوى الاقتصادية القصوى للمشروع وهو ما يعتبر ملاحظات - لمن يهمهم الأمر - أكثر عمقا و«شمولية» لأداء الحكومة في ما يتعلق بإدارة الاقتصاد الذي يواجه حاليا مصاعب وصلت بأسعار العملات الأجنبية مقابل الجنيه السوداني إلى مبلغ خرافي، وهو كذلك يذهب في إطار التساؤلات التي تطرح الآن بشدة في شأن تأثير الأزمة الاقتصادية على تماسك النظام في ظل المواجهات العسكرية التي تخوضها البلاد ضد المتمردين ودولة الجنوب. كما أن رجلا مثل «قوش» يعرف بأنه «براغماتي» من الدرجة الأولى لا يشغله التوصيف الإعلامي لتصريحاته بأنها تراجع أو انتقاد، فرجال المخابرات السابقون «يحلقون ويهبطون لكنهم لا يخمدون» كما كتب الصحافي البارع طلحة جبريل في بروفايل عن «قوش» بصحيفة الشرق الأوسط اللندنية عندما أقيل من منصبه، واعتبر الكاتب الخطوة في ذاك الحين «انقلابا داخل القصر». وعندما تحدث قوش عن ما اعتبر انتقادات لوحدة السدود التي تتبع لرجل الحكومة القوي وزير الكهرباء؛ أسامة عبد الله، قال قوش «فهموني غلط»، ولم يكن يقصد بالذين فهموا حديثه بهذه الطريقة غير وسائل الإعلام «الصحافة» حسب ما ألمح خلال مقابلتي له على هامش زيارته ضمن وفد رئيس البرلمان أمس الأول (الجمعة) إلى مجمع سدي أعالي عطبرة وستيت وحضور حفل بمناسبة اكتمال الأعمال الخرسانية في مشروع تعلية خزان الروصيرص. إذن لمن يوجه قوش الرسائل؟ يلاحظ في تصريح « قوش» ل (الأهرام اليوم) أمس (الجمعة) أنه لم يتراجع عن تصريحه بشأن مطالبته الحكومة الاستفادة بأقصى ما يمكن من المشروعات الضخمة، وهذا الحديث يحمل ذات مضمون تصريحه بشأن سد مروي، بل ذهب أكثر من ذلك ووجه انتقادا مباشرا إلى أداء الحكومة في تنفيذ برامج النهضة الزراعية، وقال: «لا نرى نهضة زراعية رغم الحديث الكثير عنها»، وبالتأكيد فإن معلومات رجل المخابرات السابق تتيح له بسهولة الربط بين عدم الاستفادة القصوى من سد مروي وبين فشل تنفيذ برامج النهضة الزراعية التي يتولى الإشراف عليها النائب الأول لرئيس الجمهورية؛ علي عثمان محمد طه!! هنا يشير محللون إلى نقطة مهمة، وهي أن البعض ربط بين صلاح قوش ونائب الرئيس علي عثمان محمد طه إبان شغله منصب مدير جهاز الأمن والمخابرات الوطني، ورأى أن نفوذ الفريق صلاح ووزنه داخل النظام يسنده قربه من النائب الأول حيث إن الرجلين ينحدران من قبيلة واحدة، واعتبره آخرون جزءا من تيار داخل الحزب الحاكم، لكن كل تلك التكهنات خابت بعد إقالة «قوش» من مستشارية رئاسة الجمهورية، وظهر أن لا علاقة من هذه النوعية تربط بين القياديين، ويؤكد ذلك انتقاده الأخير لأهم مشروع سياسي واقتصادي بالبلاد مسؤول عنه النائب الأول وهو «النهضة الزراعية»، بيد أن البعض ينظرون إلى حديث صلاح قوش عن النهضة الزراعية بوصفه ملامة ضمنية ومتأخرة لموقف التيار الذي يعتقد أنه تجاهل مساندته أو أن رسالته تحمل نهاية لأي تحالفات كانت قائمة وسدا أمام أخرى قادمة!! وقد جاء في تقرير نشر بجريدة الصحافة، للزميل محمد عثمان، أن صلاح قوش يمكن أن يعود للواجهة مرة أخرى في أي من المناصب!! وربما يحدث ذلك في إطار اتقاء الشر، وذكر التقرير أن شخصا مثل «قوش» لا يرضى التهميش!! كما أن لظهور «قوش» معنى آخر في هذا التوقيت الذي تواجه فيه الحكومة مشاكل جديدة مع المجتمع الدولي، فعلاقته السابقة المعلنة بالمجتمع الدولي والولاياتالمتحدة على وجه الخصوص غير خفية على أحد، وربما كانت تصريحات «قوش» في هذا التوقيت من أجل لفت النظر إلى أنه الشخصية المناسبة لإدارة حوار مع الولاياتالمتحدة ودول الغرب في قضايا الأزمة مع الجنوب والتطبيع مع واشنطن. هنالك رسائل محتملة أخرى، فهذه المرة تجيء عودة الفريق صلاح قوش إلى الواجهة في ظل أزمة داخل المؤتمر الوطني تبدو مظاهرها على صعيد الاستقالة التي تقدمت بها شخصية شعبوية إقليمية مثل كرم الله عباس والي ولاية القضارف، مما يمثل أيضا نزاعا مستترا بين فروع الحزب في الولايات وخصوم الفيدرالية في كابينة القيادة بالحزب حول علاقة المركز بالولايات في شؤون تقاسم السلطة والمال، وقد كان قوش مسؤولا في حزب المؤتمر الوطني عن «الفئات»، وما يزال قياديا في الحزب لكنه غير مكلف بأي مهام أو على الأقل تكليفات معلنة. وأيضا تزامنت تصريحات «قوش» مع اجتماع لهيئة الشورى للحركة الإسلامية التي تعد الرافد الرئيسي لحزب المؤتمر الوطني الحاكم، وعندما تقرأ مثل هذه التصريحات لرجل في وزن صلاح قوش فإن تأثيرها ليس على الشارع العام فقط وإنما أيضا قد تصل رسائله إلى داخل التنظيم، إذ إن قوش ليس بعيدا عن الحركة الإسلامية فقد ظل أحد أعضائها المؤثرين وما يزال في تقدير بعض الإسلاميين حتى وإن كان خارج التشكيلة التي تدير حكم البلاد عبر الحزب، كما إن هناك قيادات في التنظيم ترى ضرورة الاستفادة من خبراته العسكرية والأمنية المتراكمة بدلا من أن يكون خاملا داخل دهاليز البرلمان. وعلى الرغم من أن ظهور «قوش» يأتي مفاجئا من حين إلى آخر بتصريحات مثيرة على وسائل الإعلام، إلا أن البعض لا يعتبرها مصادفة أو تعبيرات غير مقصودة من رجل احترف مهنة في غاية الحساسية، فالحديث عن قضايا اقتصادية كبيرة مثل «النهضة الزراعية» و»سد مروي» وانتقاده لأداء الحكومة في هذا الشأن، لا يصدر إلا من أصحاب الدراية بمحتويات المواضيع، ومن ناحية أخرى فإن الحديث عن الاقتصاد الذي يشغل المواطنين حاليا يصنع رابطا بين من يتحدثون عنه بطريقة ناقدة والمواطنين الذين هم أيضا ناخبون بعد أقل من ثلاث سنوات إذا أجريت الانتخابات العامة في موعدها، وبما أن رجال المخابرات لا يتجاهلون الإشارات المهمة، فإن الحديث الذي خبا عن بديل لرئيس الجمهورية في الانتخابات المقبلة يضع «قوش» ضمن خيارات الحزب الحاكم القادمة، لكن المدهش أن لا أحد سيستطيع إثبات هذا السيناريو من تصريح لبرلماني يفترض أن هموم الناخبين من أولويات مهامه النيابية.