إن فلسفة الحكم الاتحادي تقوم على تقصير وتقريب الظل الإداري بإنزال أجهزة الحكم والإدارة إلى أدنى مستوى معقول، ورغم المحاذير التي يبديها المختصون والخبراء بضرورة مراعاة جملة من المقومات من موارد بشرية، مالية وطبيعة جغرافية وقواسم مشتركة تجمع المستويات الأدنى بالمركز لإبقاء الدولة الاتحادية.. ولظروف نوعية تجعل الواقع السوداني بكبر مساحته وتعدد أعراقه وإثنياته وطموح أهله السياسي.. سرت حمى المطالبة بقيام المحليات والولايات.. ولظروف دارفور الخاصة جداً تمت الموافقة على قيام ولايتي شرق ووسط دارفور.. التي نحن بصددها، ففي اللقاء الجامع تشرفنا بلقاء واليها د. يوسف التني المنتقل إليها من حكومة الخرطوم، فقد كان يشغل أحد مجالسها المتخصصة بدرجة وزير. تأتي أهمية اللقاء حيث الأحداث الأخيرة اعتداء واسترداد هجليج وما يحتاجه من تعبئة واستنفار.. لذا جاء الصفوة من أهل الحل والعقد من كل محليات الولاية.. الحاضرة زالنجي.. جرتتي.. جبل مرة، وادي صالح، بندس، مكجر، أم دخن وأزوم.. معظم فعاليات المجتمع أعضاء المجلس الوطني.. الشباب، الطلاب والمرأة. ولأن اللقاء كما أسلفنا ارتبط بالتعبئة والاستنفار اكتسب أهمية خاصة وهي الفراغ من تشكيل حكومة الولاية وما في جعبتها من خطط وبرامج مرتبطة بالأمن الذي يحتاج لاستراتيجية بعد مهددات دولة الجنوب وإيوائها لمتمردي دارفور، التي تمثلت مظاهرها في الاعتداءت المتكررة في جنوب وشمال دارفور والحركة والتهديد في جبل مرة الذي يقوده الوالي السابق المتمرد الحالي أبوالقاسم إمام وبعض أفراد عبد الواحد نور والمتمرد الجديد بناموسا. إن طموح شعب الولاية بقيام ولايتهم ظهر في تلك الحشود التي استقبلت الوالي لكنهم في غمرة ذلك نسوا التحديات التي تواجه ولايتهم، فعلى الصعيد السياسي فحزب المؤتمر صاحب الأغلبية لم يقم بإعادة هيكلة أجهزته، فالتركة مثقلة وقد ألقت بظلالها في التشكيل الولائي، لغياب المرجعية ظهر الصراع بين تيار المحافظين الحرس القديم والقوى الإصلاحية المنادية بتجديد الدماء، فقد تمكن التيار الأول من تمرير أجندته بإيجاد حكومة معظمها من أصحاب المرض والغرض، واستطاع كل ذلك بدعم من والي غرب دارفور السابق وقد أقنع القيادة في المؤتمر الوطني قطاع دارفور بوجهة نظره، ويخشى من تأثير ذلك على المرحلة القادمة بناء الأجهزة على كل المستويات حتى الولاية خاصة عند قراءة تلك المعطيات بتركيبته السياسية.. في الجانب الآخر تفاعل الأحزاب المشاركة للحزب الحاكم حزب العدالة (السيسي) وغيره من الأحزاب المؤتلفة.. وما يتطلب من تعامل حصيف وحكيم يقرب ويجمع مرتبطاً بما عليه حال سلام دارفور من تلكؤ من قبل الحكومة والشكوى المتكررة من أنه قد يلحق باتفاق أبوجا.. ومعلوم أن قيام الولاياتالجديدة ارتبط بسلام الدوحة مما يعني أن فشله قد يعيد الجميع إلى المربع الأول. ثم يأتي التحدي الذي يمثل القضيب الذي يسير عليه القطار.. تشكيل الأجهزة التشريعية والتنفيذية.. بناء المؤسسات لولاية من الصفر في ظل عدم توفر الكادر البشري المؤهل والمدرب والمؤمن بالقضية والرسالة، وهنا تحضرني مداخلة الأخ الصديق تاج الدين إبراهيم أحد أبناء الولاية والحادبين على مصلحتها. وفي سياق عدم تمكين الوالي من أجهزته بأن ضابطاً صغيراً في رتبة نقيب يتمسك بقرارات رئاسته في الخرطوم ولا ينسق مع الوالي.. وحتى في إطار قسمة الأصول المادية والبشرية بين الولاية الأم غرب وهذه الولاية لا يمكن أن نتصور قسمة عادلة، فالتجربة في الانقسام دائماً ما تكون قسمة ضيزى، فلا يكون النصيب إلا المتردية والنطيحة وما أكل السبع.. أما فكرة استجلاب كفاءات من خارج دارفور فهذه أصبحت من المستحيلات من واقع الخدمة المدنية الذي بدلته الظروف والمستجدات حتى أهل الحارة من الولاية إن أراد أحدهم التضحية والعمل فلا توجد مقومات النجاح في حدها الأدنى، فالموارد شحيحة والمركز مهموم وتشغله قضاياه ولديه شماعة جاهزة للدفاع والأمن. لكل ذلك تجد الوالي في وضع لا يحسد عليه ومطلوب منه توفير أشياء لا تستطيعها حتى الجبال الراسيات، وقد وضع بين كفي رحى بقاء الولاية من الألف للياء دون توفير المال.. التمكين السياسي واتخاذ القرار بحرية كاملة.. والأهم أن طموحات وأشواق أهل الولاية تبدأ وتنتهي عنده، وهو كمن ألقي في اليم مكتوفاً وقيل له إياك إياك أن تبتل بالماء. وأعتقد أن مفتاح الحل وبدرجة كبيرة بالمركز توفيراً للميزانيات والمعينات المادية واللوجستية وتوفير الكادر البشري خاصة في محاور الأمن، الشرطة، والجيش لأنها مؤسسات قومية ولها إمكانات غير محددة، فالأمن والدفاع بحل معضلتهما توجد التربة الصالحة لقيام نهضة تنموية وبشرية، لذا ركز معظم المتداخلين على إنفاذ اتفاقية الدوحة، فهي آخر فرصة لحل مشكلة الإقليم، فلا يعقل عدم توافر الإرادة السياسية من قبل المركز بترقيع الغطاء السياسي لسلام دارفور ليس قدحاً في قرارات د.أمين حسن عمر ولكن غطاءً سياسياً في حكم مستشار الرئيس غازي صلاح الدين أفيد لهذا الجسم، فلا يعقل أن يشكو السيسي بأن الالتزام الأولي 200 مليون دولار تعجز وزارة المالية عن توفيره، بينما تعلم أن دفع هذا الرقم يضاعف من قبل المانحين المشترطين دعمهم لدفع الحكومة أولاً. الأمر الأهم ليس إصدار الأوامر الجمهورية بإنشاء الولاية الفلانية ولكن الأهم من ذلك الرعاية الأبوية والإنفاق السخي مادياً وفنياً حتى تقوم على رجليها، وإلا ارتداد تلك الإحلام وهي دعوى صريحة للشمات من الحركات المسلحة والمجتمع الدولي بأن الحكومة غير جادة في مساعي السلام.