{ قبل أكثر من خمسين عاماً كان أجدادنا في السودان منقسمين إلى طائفتين، هما (الختميّة)، و(الأنصار)، وكان الولاء مُتنازعاً بين (سيِّدين) هما السيد «علي الميرغني»، والسيّد «عبد الرحمن المهدي».. رحمة الله عليهما.. { وكان ولاءً راسخاً كالجبال الراسيات، لا تُزحزحه إغراءات مهما تكاثرت الأموال، وتطاولت العقارات، أو تلاحقت التهديدات، فالأنصاري.. (أنصاري على السكين) - أو كما كانوا يردِّدون - و«الختمي» يبلغ ولاؤه للسادة «المراغنة» حد التبرُّع بأشجار النخيل بثمارها عند كل موسم لصالح دائرة الختميّة..!! { كان أجدادنا يدفعون - لتأكيد الولاء - الغالي والنفيس، وهم فقراء لا تتجاوز قائمة طعامهم صنفاً واحداً: (الكسرة بملاح الويكة)..!! { والآن.. في زمن «البيتزا» و«الهوت دوق»، و«البيرغر دبل جيس».. زمن «المارتدلا».. وسلطات «المايونيز».. و«الشيش طاووق».. وبقيّة وجبات ال «تيك أوي».. صار الولاء السياسي - أيضاً - تيك أوي.. (Take away)..!! { كان مستحيلاً أن ينقلب (الأنصاري) ليصبح ختميّاً.. { ولم يسمع آبائي يوماً بأن ختميّاً يرتدي جُلباباً (بياقة)، فكّر.. وقدّر.. وضرب (أخماسُو في أسداسُو) فقرّر أن يكون أنصاريّاً يقرأ راتب المهدي وينزع جلباب الختميّة المميّز، ليضع مكانه (على الله)..!! { والمواطن المنتمي للحزب الاتحادي الديمقراطي - بعد سن الثلاثين - يظل منتمياً له حتى الممات.. والذي ينتمي لحزب الأمّة وكيان الأنصار يبقى على عهده وولائه عند سن النضوج السياسي وإلى أن يقبض الله روحه.. { وقد يكون أحدهم شيوعيّاً أو اتحاديّاً أو أنصاريّاً في المرحلة الثانويّة، وتختلف رؤاه في المرحلة الجامعيّة فيصبح «إسلاميّاً» - مثلاً - ولكن لا يمكن أن (يشيخ) أحدهم ويبلغ من العمر عتيّاً فيكتشف فجأة أن «حزب الأمّة»، أو «الحزب الاتحادي الديمقراطي»، لا ينسابان أفكاره، فيعلن انضمامه للمؤتمر الوطني.. مثلاً..!! { أنا أتعجّب لرجل بلغ الخمسين من عمره، ومازال يتقلّب بين الأحزاب.. من حزب.. إلى حزب.. إلى حزب..!! { ويعتصر قلبي الألم وأنا أراقب بل أواجه كل يوم (منتمين للأحزاب) ظاهريّاً.. و(لا منتمين) باطنيّاً.. يعرضون بطاقاتهم الحزبيّة في سوق دلالة السياسيين..!! { عرَّابو ثقافة الانضمام (بالكوم).. بالقبيلة.. للمؤتمر الوطني، هم الذين أهدروا قيمة الانتماء، وقتلوا روح الولاء، وضّيعوا قواعد الممارسة السياسيّة المحترمة.. { هي قيمة سامية أن تكون (ختميّاً) وتهب شجرتين من نخيل لدائرة السيد علي، قد يراها البعض استغلالاً للفقراء، ولكن بزاوية منفرجة هي مظهر من مظاهر الولاء الراسخ الذي (يبذل) فيه الفرد لصالح المجموعة.. لصالح الطائفة.. مقابل آخر ينتظر (بيع) ولائه وانتمائه مقابل دراهم معدودة، ومناصب زائلة..!! { و«المؤتمر الوطني» هو الأكثر تضرُّراً - الآن - من ظاهرة (الولاء التيك أوي).. السياسة الآن صارت مثل سندويتشات «الهوت دوق» و«البيرغر دبل جيس».. لا تحتاج إلى (مائدة).. و(لمّة العائلة).. تأكلها سريعاً.. وتطرحها سريعاً.. ويرتفع سعرها «جنيهاً» مع افتتاح محل جديد و(لذيذ)..!! { انهارت القيم.. وصرنا نبحث عن نماذج فلا نجد غير أجدادنا (الختميّة).. أجدادنا (الأنصار).. عدنا خمسين عاماً.. عُدنا خائبين..!!