المزعج في لعبة (السلم والثعبان) هو الهبوط المفاجئ والاضطراري الذي يلزمك بالعودة من الصفر أو أول خانة بدأت فيها لعبتك التي هي في أصل الألعاب من ذوات ألعاب البصر، حيث تتمركز في حركة عينيك ويدك في التحريك، بحسب مزاج حظ (الزهر).. لذلك لا تستدعي في كثير من الأحيان كل الانفعال الذي يصاحب الهبوط.. لكن العذر في ذلك أنها لعبة صممت لأوقات فراغ الشباب صغيري السن وما يحمله مزاجهم من انفعال في الأصل.. وذات مساء قبل غروب الشمس قبعت في انتظار مهاتفة من مكاتب الجريدة تخبرني عمّا حدث في أمر التوقيف المفاجئ الذي حظيت (الأهرام اليوم) به سابقاً.. تلقيت المكالمة لكن باختلاف وهو المطالبة بإرسال العمود اليومي، ومفاجأتي بالخبر الجيد للاستئناف شلّ حركة عمودي وافتقرت لمادة تصلح للنشر وقبعت متراخية في جلوسي الكسول - كمؤجِّزة - أبحث على طول وعرض دفاتري الجامعية القديمة ودساتير المجلس القومي للصحافة والمطبوعات ومناشير الحريات والملكية الفكرية عن سبب مباشر للهبوط المفاجئ في دورة عمل المجلس الموقر الذي أعادنا إلى خانة الصفر في الثقة به وبيننا.. وأزعجنا لا ريبة أن يكون الرصد بصرياً فقط لا علاقة له بما قبل وما بعد الخبر والمكتوب.. وهذا ما اختنقت حناجر أساتذتنا الأجلاء في كليات الإعلام بالتأكيد عليه وتثبيته كواحد من أساسيات العمل الصحفي. والعمل الصحافي في السودان موبوء بألف مرض مزمن وألف وباء مقيم من عدم المؤسسية وإلى المهنية الاحترافية، ناهيك عن الأوضاع المالية الخانقة لمالكي الصحف والمرؤسين على السواء، وحتى الآن لم تجد الصحافة القاعدة المهنية الأخلاقية القوية التي على أساسها تبني قصرها المنيف وتتسيّده كصاحبة جلالة لا تنطق عن الهوى ولا تحابي ولا تخاف من صاحب سلطة أو جاه! وفي أوقات ليست ببعيدة كان الكلام في تذبذبه وعدم مصداقيته الخبرية يقال عليه: (ده كلام جرايد ساي!) ولا أحد يصدق كلام الجرائد لأنه عارٍ تماماً من الصحة.. وكانت الأسباب الجوهرية لذلك ما يسمى بالرقابة الما بعدية أو (ناس الأمن) الذين في قريب مساء كانوا يحومون حول المكتب الفني للصحف يفلفلون كل كلمة ويحجبون كل مادة ويسقطون كل صوت لم يوافق ترتيبات الأمن. وفتح الله على أهل الجرائد بفتح الاتفاقية، فنزلت منزل الحرية قبل السلام عليهم، وأمسك شباب الأمن أقدامهم عليهم وأصبحت الرقابة - بعد قرار موفق من السيد رئيس الجمهورية المنتخب - قبْلية ومن أهل الصحافة، وهنا نتجت وظائف جديدة وفُعلّت أخرى كانت مجرد لافتات منضدية كمستشار التحرير مثلا.. وأضحت حرية الصحافة الموضوعة على عاتق الصحفيين وعلى رقاب أقلامهم أشدّ وطأة من تلك القديمة - سبحان الله - لا لشيء سوى أن الصحفي الذي يصنّف من رقباء المجتمع لعينه الفاحصة ونظرته الثاقبة يستطيع وبدون أي انفلات أن يكون رقيباً عتيداً على ما يكتبه للناس وحريصاً عليهم وعلى مصالحهم وأذواقهم بل وأخلاقهم.. وشهدنا في هذا الفتح جميل كتابات وتحقيقات فتحت أبواب المسكوت عن مناقشته أمام المسؤولين وعرفتهم من الصالح والطالح في مستشاريهم ومدراء مكاتبهم ومصالحهم، بل مكنتهم من تقويم الأخطاء وتصحيح المسارات وتجديد الثقة لمرة قادمة. وشاهدنا - والحمد لله - أشكال الصحافة التي كانت خاصة بخارج السودان من مجلات وإصدرات زاهية ومنسقة، وأمتلأت المكتبات بالسوداني وبكل أنواعه.. وفي ذلك يتنافس أهل التوزيع كل تنافس.. فزادت تبعاً لذلك مجمل المهن التي تنسب إلى العمل الصحفي - و«السرّيحة» على تأجيرهم المتسبب في تقليل التوزيع كذلك - وفتحت مع ذاك الفتح آلاف البيوت والأفواه.. والنفوس. ونفوسنا التي جزعت لسماع أقسى وأقصى عقوبة لمّا تم رده من السيد رئيس التحرير على إساءات له - بشكل شخصي لا علاقة له بالعمل العام.. من الجانبين - كانت تنتظر أن تكون العقوبة في إنصافها ورصدها متزامنة مع الأحداث وفي ذات أصل الحديث، ليعرف القارئ والمتابع السبب المباشر للعقوبة ويعرف مدى يقظة ونشاط إدارات المجلس الموقر.. ويعرف كذلك أنه لا يوجد من هو فوق القانون، إن كان قانون المجلس أو قانون الاتحاد العام للصحفيين السودانيين الذي خلق لهم لا عليهم ولإصلاحهم وصلاح أوضاعهم، لا خراب علاقاتهم وبيوتهم..! أو حتى قانون النظام العام. ولنعرف نحن متلمسي طريق الكتابة في الجرائد السودانية المحترمة أن لنا ظهراً يمكننا أن نستند إليه إذا واجهتنا في كتاباتنا (غير الملتزمة) معضلة سوء تفاهم مع جهة ما أو قضية تمس أرزاقنا وأرواحنا.. أن لنا كيان نستطيع أن نحتمي بينه ويحمينا من السلطات ويقف لها بكل عنفوان وثقة.. ليردها عنّا، لا أن يكون هو أداة الجلد لتغريمنا وتغريبنا من مهنتنا التي نحب. «لهذا يلجأ الكثير من الصحفيين للحصول على صداقات رسمية مع المسؤولين الكبار وهواتف بخطوط ساخنة معهم ليكفّوا أنفسهم شر أعداء الداخل وسخونة الباطن» والأدب الصحفي والعرف فيه يقول إنه لا يجب مناقشة قضية ما زالت قيد التحقيق - هذا في شأن قضايا الجنايات والنيابات - وبذاته أتأدب ولا أتدخل بالنقاش - غير المجد - حتى يقضي الله أمرا كان مفعولاً.. لكنني وبحكم أن (الأهرام اليوم) سبب الوصل بيني وبينكم وسبب رزق ميسّر - من الله - وسبب سعادتي غير المشروطة بالكتابة وسبب جميل ومباشر في تعريفي بهامات صحفية محترمة تساعدنا أيضاً - بلا شروط ما بعدية - فإنني أعلن عصياني التام على أن نكون - كصحفيين - مجرد (زهر) تحركه الأمزجة وحظوظ الثعبان بالصعود أو الهبوط في السلم..!