{ نعم، نسينا الموت، أو تناسيناه، لم يعد يحركنا كما يجب لنستغرق في الخوف منه، ونعود إلى الله، مستغفرين، تغسلنا دموعنا المنهمرة الغزيرة. نسينا الموت لأننا بعدنا عن الدين، وانغمسنا في الدنيا بدناياها، غافلين عن الموت، وهو يدنو منا يوماً بعد يوم. هل تعرفون كيف نسينا الموت؟! { سأحدثكم عن الأمر بوقائع شخصية، وأنا متأكدة من أنها مرّت على العديد منكم، إذ امتحنني الله مؤخراً بوفاة خالتي العزيزة الطيبة، التي لا يختلف اثنان على نقائها وتواضعها ومحبتها للجميع، رحلت عن هذه الدنيا الفانية دون أن يتذكر أحدنا أنها أغضبته يوماً، أو تسببت في أذاه، فهي المبتسمة دائماً، والوديعة، والحانية، وهي كانت أم الجميع، بحكم سنها وحكمتها ووقارها وصبرها الطويل وتجربتها في الحياة. وبقدر فجيعتي فيها، وألمي على فراقها؛ تألمت أكثر لأن الناس ما عادوا يراعون حرمة الموت، ولا يقدرون إحساس أهل الميت، ولا يتذكرون دنو آجالهم، إذ تحوَّل «الفُراش» بعد الساعة الأولى من الوفاة إلى مجرد (نادي)، اجتمعت كل (شلة) على حدة، حسب ميولهم ومستوى علاقاتهم، وشكل تعاطيهم مع الحياة وبيئتهم، وانهمك الجميع في أحاديث جانبية خاصة، طغى عليها طابع النميمة والغيبة، و(البوبار) والمعاداة، والمعاداة هنا تعني اغتنام فرصة المأتم لتصفية الحسابات النسائية القديمة، (بالمطاعنات)، والمواجهات، وربما العراك والتشابك بالأيدي. وأقسم أن الأمر لا يخلو من بعض الإسفاف، والتراشق بالألفاظ البذيئة الخارجة من أفواه وقحة ومريضة وسافلة. { لقد بكيت على حالنا أكثر من بكائي على فقيدتي الحبيبة، فهي بين يدي الله أرحم الراحمين، وكل المؤشرات تؤكد أنها ماتت ميتة مباركة طيبة، كيف لا وقد شاءت إرادة الله أن تحملها أقدارها لتموت في الأراضي المقدسة، وتُدفن في «البقيع» لتبعث مع أهله بإذن الله. ولكن من لهؤلاء السُذج، والساذجات اللائي نسين الموت يوم تدور الدوائر، ويأتيهن عزرائيل ليقبض أرواحهن الخربة؟ من للنساء اللائي يتبارين في إظهار زينتهن، والحضور لأداء واجب العزاء بكامل حليهن وأناقتهن، بل إن بعضهن أصبحن يذهبن أولاً ل(الحنانة) قبل الحضور (لبيت البكا)، حتى يكن (مجيّهات)، فأية جهة يتوجهن إليها يوم يلقين وجه الله؟ { ادخل إلى أي بيت عزاء، ولن تسمع سوى بعض الأنين الخافت المزيف في زواية بعيدة، بعدها ستجزم أنه بيت عرس، فالأكل ما لذّ وطاب، وتدور عليك فتيات جميلات (معزلات) بأكواب الشاي والقهوة والماء البارد، والونسة في أوجها، وقد تتعالى ضحكة مدوية من واحدة ممن نسين أصلاً أنهن في (بيت بكا)، أما الأطفال فحدّث ولا حرج، كمية من الأطفال تصلح كبداية ممتازة لمشروع روضة نموذجية، (يتجارون) تحت الأقدام، ويتعالى صراخهم باستمرار، وأمهاتهم غير مباليات، فهن مشغولات بالحديث عن أسعار الذهب، وأشكال الخبائز، وخامات (التياب والملايات)، وكيفية تأديب الأزواج والنيل منهم. { وبدلاً عن أن نتسامح ونتصافى ونتذكر (الشبر وكوم التراب)؛ نمضي في غينا أكثر، ونؤجج نيران الخلافات وقطيعة الرحم، (ودي بعزيها)، (ودي ما بعزيها)، (ودي طالباني.. ودي محارباني.. ودي ما مستواي)، وأهل الميت محتارون بين (الميتة وخراب الديار)، وضيق ذات اليد، والخسائر الفادحة في الأرواح والممتلكات، و(اتغدينا وما شربنا الشاي)، (ويا بت جيبي قهوة)، والمرحوم تحت التراب، وقد بدأ الحساب، ونسيه الأحباب، وما عاد يجدي الأصحاب، والصبر لأولي الألباب. { فيا قرائي الأعزاء، نسأل الله حسن الخاتمة، وقد أوصيت زوجي وأمي أطال الله عمريهما وجعل يومي قبل يومهما، بأن يجعلا عزائي ينتهي بانتهاء مراسم الدفن، وأقسمت عليهما بألا يسمحا لهؤلاء بانتهاك حرمة موتي، والابتهاج بين دموع أبنائي ويتمهم. أقسمت عليهما ألا ينحرا الذبائح ليأكل هؤلاء وأنا تحت الثرى، ويقهقهون ودمي لم يبرد بعد، فإذا تقاعس أهلي عن تنفيذ وصيتي، فذكروهم بحق ما بيننا من رباط قوي، وادعوا لي بالرحمة يومها، و«إنا لله وإنا إليه راجعون» في فقيدينا العزيزين «الأخلاق والضمير». { تلويح: «لشد ما سأفتقدني عندما أموت» عاطف خيري