عماد الدين عبد القادر الشريف ما يثير الكوامن، السلوك المشاهَد اليوم في الشارع العام من صفات طمست الإنسان السوداني المعروف بالكرم والجود والخلق والمروءة و(أخو البنات) و(سيد الحارة)، عكست علينا الهجرة الوافدة في الداخل إفرازات وسلوكيات منها المقزز والفاحش. إن الحضارة في مفاهيمنا هي النمط من الحياة المستقرة والتمدن الذي يناقض البداوة والجهالة، ويضفي على حياة أصحابها فنوناً منتظمة من العيش والعمل والاجتماع والعلم والصناعة وإدارة شؤون الحياة والحكم وترتيب وسائل وأسباب الرفاهية، وهي أحوال زائدة على الضروري من أحوال العمران، وزيادة تتفاوت بتفاوت الرقي، وتفاوت الأمم في القلة والكثرة، والحضارة هي الرقي العلمي والفني والأدبي والاجتماعي والاقتصادي. وبعبارة أخرى أكثر شمولاً هي الحصيلة الشاملة للمدنية والثقافة والفكر ومجموع الحياة في أشكالها المادية والمعنوية، ولهذا كانت الحضارة، وهي الخطة العريضة التي يسير فيها تاريخ أمة من الأمم، ومنها الحضارات القديمة والحضارات الحديثة والمعاصرة، ومنها الأطوار الحضارية الكبرى التي تصور انتقال الإنسان أو الجماعات من مرحلة إلى مرحلة، وبذل المجهود - بوصفنا كائنات إنسانية - من أجل النوع الإنساني وتحقيق التقدم من أي نوع كان في أحوال الإنسانية وأحوال العالم الواقعي، وهي جملة المظاهر المعنوية التي يخلفها التاريخ وتبقى في المجتمع على مر الأيام دليلاً على القدرات الذهنية المميزة وتعبيراً عن روح هذا المجتمع والشعب الذي يمثله، ولا شك أن المظاهر المعنوية تأخذ قوالب مادية مختلفة تتجسم فيها تلك المعنويات وتشكل المظاهر المعنوية في صور مختلفة كالفنون والآداب والعلوم والمعارف ومجموع ما ينتج عن ذلك كله من تسجيلات ومشاهد في الآثار والعمائر وأسلوب الحياة وآداب المعاش اليومي. إن الحضارة هي التدخل الإنساني الإيجابي لمواجهة ضرورات الطبيعة وتجاوباً مع إرادة التحرر في الإنسان وتحقيقاً لمزيد من اليسر والرخاء في إرضاء حاجاته ورغباته وإنقاصاً للعناء البشري والمعاناة، فالسلوك الإنساني الذي ينتج الحضارة هو استجابة لتحدٍ من ظروف الطبيعة يكون هو المثير والدافع والحافز للإنسان كي يتغلب على ما يواجهه، ومن ذلك عوامل في طبيعة الإنسان نفسها مثل حاجاته للطعام والشراب والدفء والاستقرار والأمن، وهناك منافسة الإنسان الآخر له على ذلك ثم ما يكون من قصور ظروف بيئته المادية عن تلبية هذه الحاجات، فالحضارة تحقيق للراحة الإنسانية في جوانبها المتعددة المتقابلة المتكاملة جسدية وعقلية ونفسية وروحية والسلوك الحضاري، ويمتلك كل إنسان سلوكاً، منه حب الذات وقهر الآخر من خلال سلوك الإخضاع وإذلاله، فالإنسان يكون موجهاً نحو إشباع دوافع اجتماعية عبر الاتصال بالآخرين والتفاعل معهم لغرض إشباع الحاجات المرتبطة بمشاعر المحبة والقبول والاستحسان والاحترام، وهذه يتعلمها الإنسان منذ بدء حياته وزادت تلك القيم السائدة في المجتمعات المتحضرة مع التطور الحضاري للمجتمعات بإضفاء سلوك ومشاعر الدفء والتقبل للآخر بغرض إحداث التوافق الناجح مع أفراد المجتمع فأنتجت المجتمعات الحديثة قيماً ومعايير وأعرافاً جديدة مثل التصرفات العدوانية والعدائية التي أفرزتها التجارة وأكل العيش، ولا تتلاءم مع التطبع الحضاري، وما يصدر عنه من سلوك يتميز بالحس الاجتماعي والحس الأخلاقي، ورغم أن الحواس تنشأ لتحقيق الحاجات الجسمية أو النفسية أو العقلية؛ فإن السلوك الذي يثيره ربما يتأثر بالخبرة بقدر كبير، فإن الحس ينشأ مع الجوانب العقلية المعرفية وينضج معها، فالنضج هو عملية تطور ونمو داخلي لا دخل للفرد فيه، فالميل إلى التعقل في حل المشكلات اليومية هو بحد ذاته نضج، وهو بنفس الوقت إشباع غريزي للحاجات كما هو الحال لدى الكائنات الحية الأخرى عند الجوع أو الإحساس بالخطر ومهاجمة الكائنات الأخرى وإن اختلفت أيضاً الإشباعات عند الإنسان عنه لدى الحيوان فالإنسان يلجأ إلى العنف والإساءة ويهاجم الإنسان الآخر حينما يختلف معه في الرأي أو الاتجاه أو المعتقد أو المذهب أو الدين أو الفكر، وهي عودة إلى الغريزة الحيوانية فنراه يستخرج كل الأسلحة الفتاكة للنيل منه ابتداءً من السلوك الشخصي وهو السلوك الموجه تجاه أشخاص في صوره المتعددة كالقتل أو الاغتصاب أو العنف الأسري أو سلوك الموظف أو القيادي بالترفع والكبرياء والتعالي، حيث يرجعه علماء النفس إلى الرواسب الاجتماعية والنفسية الموجودة بين الوالدين أو بين الزوجين أو العنف المدرسي والجامعي الذي يأخذ صورة الاعتداء على المعلمين أو القيام بحرق الأشياء الخاصة أو التخريب المتعمد للممتلكات الخاصة أو حتى التعدي على لوائح وقوانين المدرسة أو حالات الغش الجماعي أو الفردي أو العنف الاقتصادي الذي ينطوي على المغامرة بنظام المجتمع الاقتصادي والمخاطرة بالاقتصاد العام مثل البيع بالسوق الأسود والدولارات وغسيل الأموال وسوق المواسير أو العنف السياسي من خلال أجهزة الدولة واستغلال مناصبها مثل الأجهزة الأمنية المختلفة أو استغلال القضاء أبشع استغلال للأغراض الشخصية الضيقة وكل ذلك والعديد من أنواع العنف المنظم الذي يمارسه الإنسان كسلوك يصدر من الإنسان الذي لم يتطبع بالوعي المستنير وإنما بقي أكثر ميلاً (للحيونة) وبه فاق السلوك الحيواني في التدمير والافتراس، وهو أشد أنواع تطبيق العنف لا سيما عندما تتم ممارسته من جهة دينية وهو العنف الديني والمذهبي أو القتل والتمثيل وهو العنف الخفي الذي يكون تحت أشكال مختلفة ومسميات متنوعة وأغطية تتراوح ما بين الفكر السياسي إلى التدين بأنواعه والمذاهب باختلافاتها، فالعنف الخفي المبطن وغير المعلن يعبر عن وجوده في مواقف الحياة اليومية كالإقناع القسري أو إذعان الناس بالقوة لهذا المذهب الديني أو ذلك الفكر المتشدد، وهذا نابع من العنف الكامن في أعماق النفس البشرية الذي لم يجد مخرجاً له في منافذ عدة مختلفة مثل التعبد الصادق من خلال التوحد بهذا الدين الذي لم يستطع بكل دعواته وتعاليمه الإلهية أن ينبذ كل أشكال القسوة والعنف والسلوك العدواني داخل هذا الملتزم به دينياً أو فكرياً، فكيف الحال مع الإنسان الذي يذبح لأنه كان (سنياً أو شيعياً) ونطق بالشهادتين وآمن بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام وآل بيته بصحبه وآمن بكل ما جاء به الأنبياء والرسل والحال ذاته على الذين آمنوا بالكتب السماوية، وينطبق الأمر على أولئك المتعصبين من الأديان السماوية الأخرى أو الفلسفات الدنيوية الذين لم يسعفهم سلوكهم رغم تأثرهم بمعتقدهم فالإنسان الذي هو بمعنى الكلمة إنسان؛ يفترض أنه يمتلك سلوكاً ناضجاً يتعامل به مع الآخر مهما كان انتماؤه أو دينه أو مذهبه أو ما يعتقده. إن منطق التصرف غير اللائق هو منطق المضطرب الذي يعرفه عامة الناس بالجنون، فالجنون في رأي الناس جميعاً اضطراب في المنطق وفساد في الحكم على الواقع وعلى الناس وما يؤمنون به، ويرى أن ما يؤمن به هو الصحيح وما يؤمن به الناس يجب أن يُعارض ولا يكون مقبولاً وأن أصحاب الفرض القسري للمذهب أو المعتقد لا شك يتمتعون بكامل قواهم العقلية والكثير منهم على درجة عالية من الذكاء وبعضهم حقق ذاته بأن تبوأ مناصب إدارية أو علمية أو فقهية أو شرعية أو وظيفية، ولكن من المتفق عليه نفسياً أن الأعراض التي يشقى بها هؤلاء في تصرفاتهم التي تشبه السلوك الحيواني، هؤلاء في حكم المرضى، إذ ينشأ لديهم صراع شبيه بالصراع الناشئ وراء المرض العقلي و الصراع بين الرغبات الغريزية ومقتضيات الواقع فالرغبات الغريزية حتى وإن كانت غريزة العدوان والسلوك الحيواني والواقع ومقتضى الحضارة التي تدعو الناس إلى احترام الآخر بمذهبه الفكري والديني وملبسه وسلوكه وتعامله، لذا فإن أولى الخطوات هي إرشاده لإدراك الواقع إدراكاً معرفياً جديداً بعد أن أدركه إدراكاً يعوزه السداد ومثله مثل مريض العقل يعرف الواقع ويخطئه ومع ذلك مزج المعرفة الحقة بالنكران.