{ قادتني الصدفة لمجمع محاكم بالخرطوم فلفت نظري صبيان جيء بهما مخفورين لقاعة المحكمة فقادني الفضول لمعرفة جريمتهما فجلست كغيري من المستمعين للقضية التي كانت جناية سرقة نفذها (الصبيان) اللذان يعملان (غسالي عربات) بالسوق العربي حيث حضر إليهما تاجر وسلمهما مفاتيح عربته لينظفاها له مقابل جنيهين وبداخل العربة ملايين الجينهات عندما وجدوها قاموا بسرقتها وهربا. { وأنا استمع كان يتبادر في ذهني سؤال: من هو المجرم الحقيقي في هذه القضية؟ هل هما الصبيين الصغيرين اللذين دفعتهما الظروف لترك الدراسة والعمل في مهنة وضيعة لتوفير أكل وشرب أسرتيهما، أم المجرم الشاكي نفسه الذي أغرى المتهميْن على الانحراف ناسياً ومتناسياً أن (المال السائب يعلّم السرقة). { وإيماني الشخصي جعلني أجزم أن الشاكي هو الذي يستحق العقاب؛ لأنه ساهم في إفساد أولئك الشباب، وليت القانون يُوجِد لنا نصاً يحاكم مثل أولئك المفسدين. { درجنا عند نقاش أسباب الانحراف أن نهتم بالجاني، وقتل الخبراء وعلماء الاختصاص ذلك الجانب بحثاً ولكن لم يلتفتوا يوماً أو يسألوا عن (دور المجني عليه في الجريمة). فالواقع يقول إن معظم الجرائم، خاصةً السرقات، يلعب فيها المواطن دوراً في ارتكابها نتيجة عدم اهتمامه وعدم احتراسه وعدم إيمانه بقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (اعقلها وتوكل على الله). { فالواقع في جرائم السرقات حالياً يقول نصفها من خدم منازل يدخلن البيوت من أبوابها ويسرحن ويمرحن أمام نظر أصحابها ثم يسرقنها ليكتشف صاحب المنزل بأنه لا يعرف حتى الاسم الثاني للفتاة التي أدخلها منزله وجعلها تعيش مع أسرته. وآخرين ينامون تاركين كل أبواب المنزل مشرعة فلا يجد اللص ما يعطله ولو ثانية. فإذا أخذنا أن (اسكوتلانديارد)، هي أعلى جهاز للشرطة في العالم، بأنها تعرِّف الوقاية من السرقات في كلمتين close and light وتعني (الإغلاق والإضاءة) فماذا كان سيحدث لو أن كل مواطن وضع لمبة واحدة أمام منزله وأغلق أبوابه؟! وماذا كان سيحدث لو أن ذلك التاجر أخذ معه أمواله وترك الصبيين يعيشان شرفاء بالجنيهين الأجر الذي اتفقا عليه؟!