{ كان الطبيب الجرّاح محمد توم يتحدث معي عبر الهاتف «مسيرة سبعة كيلو»، وهي المسافة ما بين القيادة العامة بوسط الخرطوم إلى مدينة حلة كوكو، لم أشعر لحظة خلال هذه «المكالمة المسيرة» بأني أقود عربة، وكنت ساعتها أرتكب مخالفة مرورية باهظة، «مخالفة استخدام الهاتف الجوال أثناء السير»، كانت هذه المخالفة أهون لي ألف مرة من «ارتكاب مخالفة تأجيل محادثة الرجل الجراح»، وأعانتني عطلة السبت على ارتكاب هذه المخالفة المرورية، وذلك بشح السيارات في هذه العطلة التي تصادف نهاراً إفريقياً قياسياً ربما تجاوزت درجة حرارته الأربعين درجة مئوية، وبهذه الأدبيات كنت كما لو أنني أنافس الأطباء في عقر ديار مهنتهم، لطالما ارتبطت كلمة الإنسانية بمهنة الطب، على أية حال نحن في «قبيلة الإعلام» لسنا بحال أقل إنسانية من الأطباء، ولئن كان الطب يُعنى بصحة الجسد، فالإعلام في المقابل يُعنى بصحة العقل وتغذيته، وكان دكتور عصام اختصاصي الباطنية يشارك صديقه الجراح هذه «المكالمة المسيرة»، طبيبان مقابل صحفي واحد، والطبيبان يتحدثان من مكتب مكيف بمستشفى الخرطوم، والصحفي يتحدث من داخل سيارته الأسيرة ما بين كوبر وحلة كوكو. والطبيبان «محمد وعصام» يحادثانني على إثر مقالي «بربر بعدكما كوم رماد.. لا طب لا صيدلة لا اقتصاد»، لقد ترك الرجلان فراغاً كبيراً بمستشفى بربر بعد نقلهما إلى الخرطوم لتلقي المزيد من الكورسات المهنية، وهذا الفراغ قد رسم ملامحه لنا المواطنون الأبرياء، قال لي الجراح محمد توم إن هذا القبول الشعبي مرده إلى شيئين اثنين، الأول ما كنا نسأل عن أي رسوم لأية عملية كبيرة كانت أم صغيرة قبل إجرائها، كما لم نرفض التعامل مع أية حالة بسبب المال، أما الثانية، وهي بيت قصيدي الأهم، تتمثل في أن الطبيب يعالج مريضاً فيتعرف على (حِلته) كلها، ونحن ذرية قوم في تلك المضارب إذا مرض أحدنا تمرض (الحلة) بأكملها وترفض أن تغادر المستشفى إلا بعد أن يتعافى ذلك المريض، وأنها لعمري أقرب إلى مضامين «أمة الجسد الواحد»، التي «إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»، ففترة إقامة المريض بالمستشفى كانت تكفي لصناعة صداقة وعلاقة جديدة، بين الطبيب وحلة المريض، ولقد ارتحلت تلك القصص المدهشة مع رحيل الرجلين، ولقد حملني الأهالي «أشواقاً باهظة» حاولت أن أجسِّدها في ذلك المقال، المقال الذي دفع هذين الطبيبين إلى أن يتحدثا معي «مسيرة سبعة كيلومترات» امتدت من وسط المدينة إلى ضواحيها. وغير بعيد من هذه المكالمة، نتلقى مكالمة أخرى من «مستر علي»، هكذا عرّف الرجل الطبيب نفسه، إنه الطبيب الجراح الذي خلف الرجلين على إدارة مستشفى بربر. بدأ الرجل الجراح خطابه معي بالآية الكريمة «يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ...» الآية، ثم أردف بعبارة «غفر الله لك»، فلقد أثنى الرجل كثيراً على عهده الجديد، واستشهد بازدياد دخل المستشفى دلالة على الإقبال المتزايد، وأن ثمة جهود كبيرة تُبذل الآن لأجل زوار المستشفى، وبالتأكيد أنا لا أملك هنا إلا أن أحيي جهود الإدارة الجديدة المخلصة وأتمنى لها التوفيق والنجاح. { غير أن الذي سكبته في ذلك العمود هو أشجان الجماهير وأشواقها وأحاسيسها، التي سالت جداول، ومن غير الصحافة من يعبّر عن هذه الأشواق والمشاعر. إنها «بعض شهادات» في حق طبيبين شابين ماهرين توثقها الصحافة وتبرزها وتعلقها على ذاكرة الزمن وواجهة التاريخ في مدينة التاريخ بربر، ولم نستنكف أن نفعل الشيء ذاته مع «مستر علي» لما تتحول مكتسباته هذه ومجهوداته يوماً إلى «حالة جماهيرية عارمة»، ولئن كان الأطباء يضعون سماعاتهم على قلوب المرضى ليقرأوا حالاتهم الصحية، فنحن في المقابل نضع أقلامنا على قلوب الجماهير لنسجل نبضاتهم، وهذا الصوت صوت الشعب.. الوفي المخلص. { شيء آخر ذي صلة.. تمنيت لو أسقط الأطباء تحديداً من أجندتهم «مبدأ التوقُّف عن العمل لتحقيق مكاسب مادية»، على أن تذهب «عبقرية الأطباء» لاكتشاف سلاح آخر غير الاضراب، فالتوقُّف عن العمل هو سلاح ضد المرضى وليس ضد الأنظمة، ويبدو الأمر كما لو أن الأطباء في هذه الحالة يستخدمون المرضى «دروعاً بشرية»، على أن انجازهم المادي في هذه الحالة سيتحقق على جثث المرضى الأبرياء، فالطبيب الذي يتوقف عن العمل كما لو أنه يكتفي «بشهادة المهنية» ثم يقذف «بشهادة الإنسانية»، الشق الأهم في العملية، إلى عرض البحر. مخرج.. كان الطبيبان «عصام ومحمد توم» يهاتفانني من مقر عملهما بمستشفى الخرطوم «يوم اضراب الأطباء».