{ كنت أعتقد أن أصعب ما يواجه الصحفي؛ أن يكتب عموداً راتباً ويومياً؛ لأنه مطالب بأن يكون مع الحدث، وأن يكون متجدداً في الفكرة والتناول، وحتى المفردات. وأنا شخصياً صعوبتي تزداد؛ لأن لي قراء؛ هم على الدوام (صاحين ومفتحين) يحاسبونني على الخطأ الإملائي، ويعاتبونني على الخطأ النحوي، ويصبون جام غضبهم على الفكرة إن جاءت على غير ما يؤمنون. { ولعلِّي كنت أحسب نفسي ممن يعانون هذا المخاض الصعب كل صباح، باعتبار أن القارئ دائماً في انتظار مولود جديد، مكتمل الهيئة، صحيح البِنية، وربما البعض (عايزو يتولد بأسنانه)، إلى أن دخلت في نقاش مع الصحفي الأستاذ مؤمن الغالي، الذي أكد لي أن أصعب ما يكون هو كتابة عمود يومي متجدد، مما يجعلك دائماً في حالة توهان وسرحان و(تفتيش عن الجاي). { كنت أظن أن ذلك أصعب ما يمكن أن يقابلني، لألتزم بموعدي كل صباح مع أصدقاء ومحبي «الأهرام اليوم»، إلى أن اكتشفت أن أصعب امتحان دخلته هو محاولتي الكتابة عن الرائع الأستاذ عثمان حسين، (عارفين ليه)؟ لأنه - ببساطة - تهرب الكلمات، وتتقزَّم؛ إن حاولت أن تصفه بها، وتشرد المعاني وتتظلَّم؛ لو أنك شبهته بها، لأنه - وببساطة - هو أروع من كل الكلمات، وأصدق من كل المعاني. فعثمان حسين لم يكن حالة فنية نادرة فقط؛ ولكنه أيضاً كان حالة إنسانية أندر. كل من يتحدث عنه، ممن عاصروه؛ يصفه بشجن عجيب، وحب كبير، حتى لكأني أحياناً أشعر أنه يخرج من مسامات السر دوليب، وهو يحكي ذكرياتهما، أو لكأنه يضع كتفه متكئاً على حسين بازرعة، والرجل يسرد جميل الذكريات. والغريب العجيب والمتفرد؛ أن عثمان حسين صاحب تجربة وتاريخ لا يختلف عليه اثنان، ومستحيل أن تجد شخصاً، حتى لو أنه يعشق أغاني زيد أو عمرو من الفنانين، مستحيل ألا يكون عاشقاً وحافظاً لواحدة من أغنيات عثمان حسين. مرات كثيرة أسأل نفسي: ماذا لو أن عثمان حسين لم يكن موجوداً من الأساس؟ (على فكرة) هو سؤال غريب، لكن (عامل زي لمن تكون فرحان وتسأل تقول ماذا سيكون شكل الحياة لو لم يكن فيها فرح؟) أوأنك حزين وتسأل كيف سيكون شكل الحياة لو لم يكن فيها حزن؟ أو أنك متشوق للقاء الأحبة وحانت ساعة اللقيا فتسأل نفسك وأنت في عز جمر الانتظار: ماذا لو لم يكن في الحياة ساعة ودقيقة وثانية وموعد؟ (ده بالظبط) ما أعنيه وأنا أسأل: ماذا لو لم يكن في الحياة عثمان حسين؟ هل يا ترى كنا (حنكون مليانين) ومترعين بهذا الجمال، وهذه المشاعر الخلابة البراقة؟ ماذا سيكون حال ذائقتنا الفنية لو لم تكن مطعمة ومحلاة بغرد الفجر، وعشرة الأيام، وأنا والنجم والمساء، والفراش الحائر، وداوم على حبي، وأنا المظلوم، ونابك إيه في هواه، وقلبي الحزين، وأنا وحدي طول الليل، وما بصدقكم، ويا ربيع الدنيا، وبعد الصبر، واوعديني، ومن عيونك يا غزالي، وصدقيني، والدرب الأخضر، والوكر المهجور، وطيبة الأخلاق، وارويني، وأوراق الخريف، ووداعاً يا غرامي، وناداني غرام، وإن تريدي يا ليالي، بالله عليكم أي جمال يبثه الرجل فينا، وأي روعة تمنحها الكلمات لنا! فعثمان حسين، يا ورثة عثمان حسين، حق مشاع لكل أبناء الشعب السوداني، فرجاءً ثم رجاء يعقبه رجاء، لا تمنعوا أحداً من أن يردد أغنيات الراحل العظيم، حتى لو أن كل قوانين الملكية الفكرية حرضتكم على ذلك، دعوا شبابنا يتنفسه، ودعوا صغارنا يتحصنون به، ودعوا كبارنا يجترون فيه الذكريات والأيام الخوالي، دعونا لا نحرم من إرث عثمان حسين إن كان بصوته أو حتى بأصوات الآخرين. ودعوني أتوقف عن الكتابة (لحدي هنا) لأنني أستمع الآن إلى الراحل العظيم وصوته ينبعث من جهاز الكاسيت، وربما تصيبني (غيبوبة) طربية فلا أدري ماذا أكتب أو عن ماذا تحدثت!! كلمة عزيزة .. ظللت دائماً أسأل عن المعنى الحقيقي للوصف الذي نصف به شخصاً بأنه رجل رسالي، لكنني وجدت الإجابة أخيراً وأنا ألتقي بالأستاذ عبد الرحيم البرعي، مؤسس مجلة المجد، التي تصدر عن حي بيت المال بأم درمان، والمجلة رغم تواضع الإمكانيات التي تخرج بها إلا أنها مميزة من الغلاف حتى الغلاف، وتحتوي على مواد منوعة وأخرى ثقافية جاذبة للقراء والمتابعين، ما يؤكد أنها تحمل فكرة عظيمة، وفكراً أعظم. بالمناسبة حدثني الأستاذ عبد الرحيم أن الصحيفة، التي تصدر منذ الخمسينيات، كانت عبارة عن صحيفة حائطية تطورت حتى وصلت مرحلة الطباعة بالكمبيوتر، ورغم بساطة الطباعة نفسها إلا أن المجلة لا تخلو من أناقة وشياكة في التبويب والتنوع.. فالتحية لك أستاذنا البرعي لأنك رجل مؤمن بدور الصحافة فظللت قابضاً على الجمر دون أن تحترق كفاك، بل على العكس أطفأت سخونته بإصرار عجيب تستحق عليه الشكر. كلمة أعز المفارقة العجيبة أن الفنانين الذين يرفضون غناء المسدسات يتعاركون بالمسدسات أمام دارهم، والمفارقة الأكثر عجباً أن يكون (الحجَّاز) هو صاحب المسدسات. المهاجم على الدوام الفنان الشاب شكر الله، والحمد لله ما كان (الحجَّاز) طه سليمان، لأن المعركة كانت حتكون (بالقنابل)!!