في معظم أركان الدنيا الأطباء يحملون شنطهم ويطرقون أبواب المرضى، كما يطرق بائع الألبان الأبواب، وكما لكل أسرة عندنا في الشرق بائع ألبانها، ففي المقابل لكل أسرة في تلك المجتمعات طبيبها، وهو ما يعرف بثقافة (طبيب الأسرة) وبالمناسبة لا يزال السودانيون يحتفظون ويحتفون (بثقافة اللباني)، هذه المهنة الشريفة المحترمة، فقد أخبرني منذ أيام أحد الأخوان بأنه شاهد أبواب حي المطار بالخرطوم، حيث يقطن الرئيس والوزراء ورجال الدولة، شاهد أبواب ذلك الحي تفتح بيسر أمام بائع الألبان وهو يركب على حماره الأليف، بينما يستعصي ذات المدخل أمام آخرين إلا بعد فحص هوياتهم، فقلت لمحدثي هذا لا يحدث إلا في السودان ولكن ماذا لو أن جهة إستخباراتية التقطت قفاز هذه الفكرة، ثم قامت بإرسال (حمار مفخخ) بذات المواصفات و.. و... فللمطار وساكنيه رب يحميهم، فهذه البلاد لا تحرسها جيوش الأرض ولكن ترعاها عين السماء التي لا تنام. لكني أعود لفكرتي، رأيت أن أقول إن الأطباء في كل الأمصار والأقطار ( مهنيون عاديون) إلا في السودان، فلازال مجتمعنا يرسم بعض (اللوحات السريالية) على مداخل هذه المهنة ومخارجها، وذلك لدرجة الغناء (الدكاترة ولادة الهناء)، مما يدفع كل الأجيال اللاحقة أن تكون أمنيتها الأولى هي الدخول إلى كلية الطب، وذلك ليس لأجل القيمة الإنسانية، ولكنها لوازم المفخرة الاجتماعية على أن في أسرتنا طبيبا، وبالمناسبة فإن شواهد التاريخ والممارسة الإنسانية التراكمية تؤكد، أنه ليس بالضرورة أن العباقرة هم دائماً أصحاب أعلى تحصيل أكاديمي، بمعنى أن الدخول إلى كليات الطب قد ينتج عن (تحصيل أكاديمي هائل)، ولكن ليس بالضرورة عن عبقرية وذكاء خارق، بل أن العباقرة عبر التاريخ لا ينفقون كل أوقاتهم لحفظ المقررات الأكاديمية عن ظهر قلب، وربما يتجلي ذلك في مظهر آخر على أن كثيراً من الأطباء لا يذهبون إلى أبعد من تخصصاتهم المهنية، وربما تفوقت مهنة الطب بإنسيانيتها، ولو تجرد الطبيب من هذه القيمة الإنسانية يصبح (مثل الميكانيكي) بمعنى لو ترك الطبيب مريضه وذهب لأجل حافز مادي، يبقى لا فرق بينه وبين من يعالج ماكينة إحدى السيارات، وربما الفرق في هذه الحالة يكمن في أن السيارة يمكن أن تنتظر لأيام حتى يعود لها مهندسها، ومن ثم يتم إصلاحها وتتحرك، غير أن المريض في بعض الحالات ربما لاينتظر طبيبه، بل هنالك الآن إحصائيات بأن بعض المرضى بالفعل قد فارقوا الحياة نتيجة لغياب أطبائهم الذين تخلوا عنهم بحثاً عن المخصصات. ولو اقتربت أكثر من فكرتي هذه، لناشدت المجتمع بأن يتحلل بعض الشيء من (حمولة الهالة الزائدة) تجاه نظرته لهذه المهنة، حيث كنا نمتلك في الماضي (كلية طب يتيمة) بجامعة الخرطوم، تخرج في العام بضعة أطباء امتياز، وغير كليات الطب التي ضاقت بخريجها الآن المستشفيات، فأصبح بإمكان (أهل الدثور) أن يتخرجوا في كليات الطب بفضل ما يمتلكون من دولارات ثم يصيروا (دكاترة). ولكن السؤال الأخطر في هذا المقال، لماذا لايضحي الأطباء في فترات تدريبهم وامتيازهم الأولى كبقية المهنيين السودانيين، فمثلاً يتخرج الضباط بدبورة واحدة وبمرتب شحيح ثم تقذف به الحكومات إلى كل الأدغال والأحراش معرضاً نفسه للموت، وذلك دون أن يضرب أو يحتج، والمهندسون في مداخل مهنتهم يصرون كثيراً على زهد الدخول والعمل في العراء حتى يصيروا إستشاريين كبارا، والأطباء أيضاً يمرون بمرحلة تحتاج إلى بعض الصبر والمكابدة، وذلك قبل أن يصلوا إلى مرحة (صناعة عيادات باهرة) بشارع الدكاترة، تبلغ تذكرة المريض الواحد أكثر من مائة ألف جنيه، هو بالكاد يساوي دخل أحد الضعفاء السودانيين، فما تدخره (بائعة شاي) في شهر يذهب إلى طبيب إستشاري في رمشة عين، وإن كنت لا تملك ثمن تذكرة هؤلاء الاستشاريين الاختصاصيين فلن ينظر إليك! منذ أيام كنت مرافقاً لأحد المرضى بعيادة خارجية، ومن باب نزوع هذه المهنة، طفقت أحسب خلاصة خمسين زائرا لهذه العيادة في اليوم الواحد، فوجدتها (خمسة ملايين جنيه) في اليوم بواقع مائة وخمسين مليون جنيها في الشهر، هذا غير رواتب المستشفيات والمحاضرات وإجراء العمليات ....و.... وبرغم هذه الدخول الهائلة، وحالات العوز التي عاشتها وتعيشها الأمة السودانية، هل سمعتم، والحال هذه، أن تحالفاً طبياً قد نهض يوماً لأجل المرضى المعدمين، وذلك كأن يخصص طبيب أياماً بعينها للذين لا يملكون شيئاً؟، ولماذا تُخفى إنسانية هذه المهنة أمام (كاشيرات الأطباء والعيادات) وتشهر عند طلب الحوافز والمخصصات؟ مخرج .. إنسانية الأطباء في امتحان كبير وخطير!