{ وقد تفشى مرض الأطباء ووصل حد (الغرغرينا) في عظم كل سوداني متابع داخل وخارج البلد. واحترنا هل ننظف صلات رحم رأفتنا بهم كأصحاب حق؟ أم نبتر دابر كل من يتطاول منهم بالصوت والصورة قائلا: (عايز حقي) ولأني بشكل شخصي مشوشة تجاه هذه الحقوق وتلك الواجبات اترك مساحتي لمرافعة من طبيب أرسلها بثقته في عمودي أن تنشر دون مشرط أو مقص فهاهي: { (وكان الأطباء حتى منتصف السبعينات أو ما بعدها بقليل علي رأس الهيكل الراتبي للدولة، بل كانوا خارج الهيكل الوظيفي لسائر الموظفين حيث كانوا يسمون بالكادر المميز؛ نظراً لطبيعة عملهم المختلفة تماماً عن أية مهنة أخرى من حيث تعاملها المباشر مع صحة الإنسان، وعدم ارتباطها بساعات عمل محددة كسائر المهن الأخرى؛ إذ أن متوسط عمل ساعات الطبيب على سبيل المثال: الامتياز ونائب الاختصاصي يبلغ حوالي 78 ساعة في الأسبوع، في حين لا يتجاوز عمل أي موظف آخر 40 48 ساعة. { في أواخر السبعينات تم إدخال الأطباء ضمن الهيكل الراتبي لسائر الموظفين، وكانوا في البداية علي قمة هذا الهيكل، ثم بدأ التدحرج حتى وصلوا إلي دركه الأسفل الذي يقبعون فيه حالياً، حيث أضحي مرتب الطبيب يتراوح بين 570 جنيهاً لطبيب الامتياز إلى 900 جنيه للاختصاصي في أكبر فضيحة لم يكتشفها الرأي العام إلا مؤخراً عقب سلسلة إضرابات الأطباء الأخيرة. { ومن دون الخوض في أسباب هذه المرتبات المخجلة التي يتحمل الأطباء دوراً كبيراً فيها بسكوتهم وصمتهم وربما خوفهم فقد رفع الأطباء عام 2003م مذكرة للسيد رئيس الجمهورية في هذا الخصوص إضافة إلى مطالبهم بخصوص العلاج والسكن والترحيل والتدريب وغيرها مما وفرته اتحادات ونقابات عدا التي تدعي تمثيل الأطباء لمنسوبيها، المحامين والصحفيين على وجه المثال، فاستجاب سيادته مشكوراً ووجّه حينها بزيادات فورية تمّت بعد مماطلة من وزارة المالية والصحة التي وضح عدم اهتمامها بأوضاع منسوبيها رغم اهتمامها الجزئي بالمباني والآلات على حساب الإنسان فتدهورت حالة المباني والمعدات ولم يصلح حال الإنسان الذي هو أساس التنمية. { أما بخصوص التدريب فقد كان مسار الطبيب، وإلى زمان ليس بالبعيد، واضحاً ومعروفاً وكانت وظيفة الطبيب دائمة إذ يأتيه خبر إبتعاثه حسب أسبقيته وإن كان في أقاصي البلاد حيث ينال تدريباً وافياً وشهادات رفيعة من الخارج تؤهله لخدمة وطنه ومواطنيه بكفاءة وحرفية عاليتين. أضحي التدريب الخارجي الآن محصوراً على نفرٍ معين (قرابة ومعارف وعلاقات) وليست له أسس واضحة. { أما حال التدريب الداخلي فلا يختلف كثيراً، حيث تتغير السياسات والضوابط سنوياً باختلاف الأشخاص المشرفين عليه مما خلق للدولة أزمات وأضحى مجلس التخصصات جابياً همّه جيوب النواب؛ رسوم بطاقة دارس، رسوم مكتبة، رسوم استخراج شهادة، رسوم أطروحة، رسوم شهادة خبرة، ...إلخ، أضف إلى ذلك غياب المدربين الأكفاء حيث يتم توزيعك إلى اختصاصي كان معك قبل سنة متدرباً، إضافة إلى عدم وجود الاختصاصيين المدربين معظم الوقت فأصبح المتدرب يتعلم من المتدرب الذي سبقه ولو بقليل..! { أما عن حال المعدات والأجهزة وعموم التجهيزات التي يحتاجها المتدرب فلا دخل لمجلس التخصصات بها، وإنما بعض اجتهادات الوزارة وبعض إدارات المستشفيات، تصيب حيناً وتخطئ أحايين، وما ملف ما سُمي بتوطين العلاج بالداخل عنا ببعيد..!! { سكت الأطباء كثيراً على أوضاعهم المزرية إلى أن بلغ بهم الحال أنهم لا يستطيعون إكمال منتصف الشهر أو أقل من ذلك بمرتبهم الضئيل وحوافز مستشفياتهم الفتات التي هي أقل في أغلب الأحيان من حوافز الكوادر المساعدة، مما ألجأ الكثيرين للعمل الخاص حتى في زمن الدوام الرسمي. { وبزيارة واحدة لأية مستشفى فإنك لن تجد أغلب الاختصاصيين، بل وحتى النواب والعموميين وربما الامتياز، يتحينون الفرص للعمل في المراكز الصحية والمستشفيات الخاصة بأجور هي أيضاً زهيدة وتأتي على حساب تحصيلهم العلمي وعلى حساب أجسادهم التي أضناها الجوع والسهر، ولكنها بطبيعة الحال أفضل من الأجور الحكومية الأكثر ضآلة وزهداً. { ومن الغرائب أن الطبيب وأسرته إذا مرضوا لا يُعالجون داخل أية مستشفي حكومي إلاّ كأي مواطن عادي وفي عنابر الدرجة الثالثة، رغم ما يُزعم عن التأمين الصحي للأطباء وأسرهم الذي لم يعُد مطبقاً إلاّ في مستشفى شوامخ فقط، علماً بأنها لا تحوي جميع التخصصات. { وكان لابدّ للأطباء أن ينفضوا عنهم الغبار لأنهم أحسوا أنهم إلى تلاشٍ وزوال إذا استمر الحال علي ما هو عليه. فبدأت تحركاتهم عبر اللجنة الدائمة لنواب الاختصاصيين السودانيين التي تم انتخابها من كل فرعٍ من فروع الطب وكان ذلك في أكتوبر 2009م، بدأت اللجنة أعمالها بملف علاوة التدريب الموحدة التي صدرت بقرار من السيد رئيس الجمهورية في أكتوبر 2007م، على أن يبدأ تطبيقها في يناير عام 2008م وكانت حينها تُصرف عبر المجلس القومي للتدريب، لكن وزارة الصحة ألحقتها بميزانيتها وهنا حدث الخلل الكبير حيث أن هذه العلاوة حسب منطوق القرار الجمهوري كان يجب أن تدرج في بند الأجور وتأتي مع أو قبل المرتب، لكن الوزارة ماطلت وسوّفت حتى تراكمت المبالغ فأضحت الوزارة مدينة لكل نائب بما لا يقل عن 5000 جنيه (خمسة آلاف جنيه)، وكلما راجعها النواب ردتهم بغليظ القول وسوء اللفظ والمعاملة مع منسوبيها حتى بلغ السيل الزُبى! د.أحمد عبد الله خلف الله