فبراير 200م جدة (روايتها دوختني، وأنا نادراً ما أدوخ أمام رواية من الروايات، وسبب الدوخة أن النص الذي قرأته يشبهني لدرجة التطابق، فهو مجنون، متوتر، وإقتحامي، متوحش، إنساني، شهواني، وخارج على القانون مثلي). كان ذاك جزءاً من تعليق الشاعر الضخم الراحل نزار قباني بخط يده على الغلاف الخلفي لرواية «ذاكرة الجسد» للروائية الجزائرية أحلام مستغانمي. ويستمر نزار قباني في وصفه للرواية فيقول:(هذه الرواية لا تختصر ذاكر الجسد فحسب ولكنها تختصر تاريخ الوجع الجزائري، والحزن الجزائري، والجاهلية الجزائرية، التي آن لها أن تنتهي.. وعندما قلت لصديقي سهيل أدريس رأيي في رواية أحلام، قال لي: لا ترفع صوتك عالياً .. لأن أحلام إذا سمعت كلامك الجميل عنها، فسوف تجن .. أجبته دعها تجن .. لأن الأعمال الإبداعية الكبرى لا يكتبها إلا مجانين). وقعت رواية أحلام مستغانمي (ذاكرة الجسد) في يدي بصدفة كانت امتداداً لمجموعة من الصدف الجميلة المتلاحقة والصدف دائماً ما تخلق الأحداث الكبيرة والمهمة في حياتنا .. أليست الصدفة خيراً من ألف وعد؟؟ منذ فترة ليست بالقصيرة، لم يعد هنالك متسع من الرغبة أو القدرة على القراءة بانتظام وبالتالي لم يكن بالإمكان الكتابة .. فالقراءة والكتابة مولودان يخرج كل منهما من رحم الآخر .. فإن مات أحدهما، دفن الآخر معه.وقراءتي (ذاكرة الجسد) حدث مهم وكبير في حياتي لأن الرواية نفسها مهمة وكبيرة في سبرها الفني العميق لكل أنماط سلوكيات شخوصها، فهمهم وجهلهم، إستوائهم وارتباكهم، صدقهم وكذبهم، فراغهم، وامتلائهم، نبلهم وحقارتهم.. وهي مهمة وكبيرة في تلاحم أحداثها، في لغتها المموسقة، في مزجها الفريد بين عشق إمرأة ووطن.. وهي مهمة وكبيرة في تصويرها التاريخي الموجع لأهم حقب (الوجع الجزائري) الذي بدأه الفرنسيون، واستمر على يد (أبناء الثورة) بعد الاستقلال، واكتمل على يد الإنقاذيين. هذه الرواية التي دوخت شاعراً بحجم نزار قباني، أربكتني تماماً، وأصابتني بالذهول وانعدام الوزن والتوازن، أثناء وبعد قراءتي لكل صفحة من صفحاتها كنت كلما قرأت كلمة أو سطراً أدفع بكل ما أملك من تركيز ذهني صوب الكلمة أو السطر التالي حتى لا تحول المتعة المسيطرة علي لحظتها، دون تحقيق متعة أخرى لاحقة وقادمة لا محالة.. وهكذا، غمرتني المتعة الذهنية غمراً وأغرقتني حتى تمنيت ألا تكون لهذه الرواية نهاية.خرجت بعد قراءة الرواية بنظرتين متوازيتين : فهي كعمل فني، ذات قيمة متفردة ليست في حاجة لشهادتي المتواضعة .. غير أن شخصية بطلة الرواية لم تسمح لي بالتعاطف معها فهي إمرأة نرجسية، تعشق ذاتها، مصابة بجنون العظمة الذي لم تفصح عنه صراحة، وهي تتوهم أنها إمرأة زمانها وتتطلع، وتتمنى أن تكون حبيبة أحد أكبر الرسامين في تاريخ الفن التشكيلي، فان جوخ مثلاً، أو ليوناردو دافنشي، فوهم الشخصية الزائف بقيمة ذاتها أصابها بانتفاخ جعل منها بالوناً فارغ المحتوى وهي شخصية من ذلك النوع الذي لا يشبع ولا يقنع حتى وإن كان الرجل المستهدف رساماً رائعاً ومجاهداً جزائرياً نظيفاً مثل بطل الرواية وراويها «خالد» أو شاعراً رقيقاً ومناضلاً فلسطينياً جسوراً مثل «زياد»، فكانت النتيجة أن غدرت بالأول واغتالت الثاني، ثم ذبحت نفسها في نهاية درامية مقنعة حيث أصبحت زوجة شرعية لواحد من الذين تاجروا بدم شهداء الجزائر وقبضوا ثمن تضحيات المجاهدين عمولات بملايين الدولارات بعد الاستقلال. شخصية بطلة الرواية ، كفَّرت عنها أحلام نفسها بروعة العمل الفني وتماسكه وسبكته كوحدة إبداعية متكاملة وبجرأتها على التعرية، كما أن براعة ابتكار الشخصية نفسها ورصد وتحليل سلوكها تمنح (أحلام) تميزاً إضافياً في القدرة على الخلق بمعناه الفني المجرد.أسئلة كثيرة وحيرة واندهاش وارتباك ومجموعة من المشاعر المتلاطمة تثيرها هذه الرواية في نفس كل من يقرأها، وأنا لست إستثناء!! قلت لصديقي الذي أعارني (ذاكرة الجسد) إنني منذ آخر مرة تلقيت فيها من أمي بضعة قروش (عيدية) عندما كنت طفلاً، لم يهدني أحد شيئاً أجمل من (ذاكرة الجسد)، فهي باختصار رواية «إستثنائية» بطلها «إستثنائي» وبطلتها «إستثنائية» وكاتبها إمرأة «إستثنائية» مصابة بجنون الإبداع، وما أروع جنونها!!! و«ذاكرة الجسد» يبدو أنها مثلت جزءاً أولَ من عمل ذي جزئين، ربما كان الثاني منهما في طور النشوء والتكون وفي كل الحالات تظل أحلام مستغانمي رمزاً رائداً لإبداع المرأة وجرأتها وانتمائها لعروبتها وجزائريتها في زمن يتفرغ فيه بعض رجالنا لإثارة قثياننا بضجيج (الإدانة والشجب والاستنكار). فشكراً لصديقي الذي أعارني (ذاكرة الجسد) لأنه منحني (غنيمة) من أحلام مستغانمي، حرَّضت ذاكرتي وقلمي وحبري وقرطاسي.