التحية الحارة للأخ الكريم الخليفة، الذي أثارت ردوده حول مقالي عن الأستاذ الموسيقار يوسف الموصلي، الذي كان بعنوان «الموصلي وطن شهد من الشهد والموسيقى» الكثير من ردود الأفعال المختلفة. وأحاول في مقال اليوم وفي المقال القادم رصد المشاركات الإيجابية ووجهات النظر التي وردتني رداً على ما كتبه الأخ الخليفة وهو حقيقة توجه معافى بأن نتحاور بمنهجية لنستفيد من رؤانا المختلفة ونجعل من تواصلنا الحميد منهجاً في إرساء فكر الحوار واحترام الآخر. كان لمبدعنا الفنان الدكتور ياسر مبيوع وجهة نظر رداً على ما كتبه الخليفة، إذ قال: ليت كاتب تلك الرسائل وقبل أن يبادر بهجومه أو بموعظته تلك التي حشد لها العبارات الرنانة والجمل المتناسقة، ليته أخبرنا إن كان قد قال كلمة حق لسلطان جائر أو أخبرنا عن مقال أو رسالة لمفسد أو مختلس للمال العام أو قاتل لطفل أو عائل ومن يمارس الظلم باسم الله والدين. ومن قال إننا ننفض من حول القساة وغلاظ القلوب والنماذج التى ينضح بها إناء بلادى أمامك؟ ليتك أولاً خاطبت هؤلاء لأن ما يمارسونه لا يمارسه حتى الكفرة دعك من المسلمين. ثم بعدها تعال وكلمنا عن عشاق الجمال والفن وما سواه، والله من وراء القصد. ياسر مبيوع - أم درمان. ثم كانت هناك رسالة رقيقة من الأخت أشواق الحوري، أشكرها عليها كثيراً، وقد ذكرت فيها تعقيباً على ردي للأخ الخليفة: لا فض فوك يا بروف. ما يعجبني فيك يا بروف أنك تقابل كل من يهاجمونك بالحب والاحترام والتقدير، وتكون كبيراً كعهدنا بك ونبيلاً. لا أزكيك على الله يا بروف، ولكنك كذلك لا تخاصم من يهاجمك، ناهيك عن أولئك الذين إذا خاصموا فجروا. حفظك الله يا بروف والنخلة التي تهب الثمار هي من يحدفها الناس بالحجارة. لك مني تلال من التقدير ومثلها من الإعجاب. ودي وصادق معزتي. ومساهمة قيمة من الأخ عبد الله خالد يقول فيها: أخانا الخليفة، سلام من الله عليكم قال تعالى «كل نفس بما كسبت رهينة» صدق الله العظيم. في ما سمعت قبلاً حسبت حسن النية فبعض الظن إثم.... إليك بالشيخ قريب الله وكرومة.. كيف خرجت الكلمات بصوت كرومة وكيف استمع الشيخ إليها.. وفي كلٍّ العلم عند الله. كرومة.. يتوسط حفل عرس في حي ود نوباوي.. الذي تمنى فيه أبو صلاح أن يغشى النسيم (بي لطف شقيقة الروح).. وقد اكتظت الدار بالجنسين ككل حفل يغني فيه كرومة، الذي انطلق صوته في هدأة الليل صافياً عذباً، يهز المشاعر طرباً، والفتيات يتهافتن للرقص.. على ألحانه الشجية.. دار العرس ليست ببعيدة عن دار الشيخ قريب الله، وقد جلس الشيخ التقي الورع على (تبروقة) الصلاة وحوله بعض مريديه. وتلامذته جلوس على (البروش) يستمعون إلى إرشاداته وأحاديثه الموجهة للخير كعادته معهم.. ويصمت الشيخ في بعض الفترات ولا يتحدث، وإنما ينصرف إلى تأملاته وينفرد بنفسه.. ويحمل النسيم إلى الشيخ ومن معه صوت كرومة الرائع يغني: يا ليل أبقالي شاهد! على نار شوقي وجنوني! يا ليل!.. وينصت الشيخ إلى هذه المناجاة العذرية لليل.. الليل الذي يقيمه تعبداً وتهجداً وتلاوة للقرآن.. ألا ما أحسن هذا الذي يسمع من كلمات! ويلتفت الشيخ إلى تلاميذه سائلاً.. من الذي يغني لليل؟.. ويقولون إنه مطرب اسمه (كرومة).. ويصمت الشيخ قليلاً.. ثم يتجه إليهم قائلاً.. اذهبوا إليه واطلبوا منه أن يأتيني مشكوراً.. ويخف بعض تلامذته إلى حيث يغني كرومة في بيت العرس.. كرومة وقد فرغ من أداء الأغنية وجلست الفتاة التي كانت ترقص على (السباتة) لتخلي الدائرة لأخرى.. ووصل رسل الشيخ، وهمسوا في أذن كرومة.. الشيخ قريب الله يريدك أن تحضر إليه الآن!.. ويفزع كرومة ويضطرب ويحار.. ماذا يريد منه الشيخ؟ كان بجانبه صديقه الشاعر عمر البنا، يستمع للحديث، فيقول له مشجعاً: سأذهب معك، ونهضا.. ويخب التلاميذ أمامهما.. ويبلغان الحجرة التي فيها الشيخ وبعض مريديه، وينحني كرومة مسلماً ومقبلاً يد الشيخ.. ويلقاه الشيخ في بشاشة ولطف.. ويؤتى لهما بشراب من العسل الممزوج بالماء.. يرشفانه في بطء، ويزداد اطمئنان كرومة.. وينظر الشيخ إلى كرومة ويقول له لقد سمعتك الآن تنشد كلمات طيبة عن (الليل).. فهلا أسمعتني إياها؟ كان هذا آخر ما فكر فيه كرومة، ولكنه نهض منتشياً بهذا الطلب ونهض معه عمر البنا ليقوم له بمهمة (الشيال) أو (الكورس)... وبدأ كرومة يغني مطلع القصيدة في شيء من الاضطراب، ويردد كرومة المقطع الأول في الأغنية.. الشيخ ينظر بعيداً ساهماً... الليل... كم له فيه من تسبيح وتهليل.. ويرتفع صوت كرومة بكل ما يحمل من نبرات ساحرة (بحة)... آسرة.. يا ليل صار ليك معاهد طرفي اللي منامو زاهد يا ليل ...! ويهتز الشيخ... ويرتفع صوته في صيحة من تملكته نشوة الليل.. ليل الصوفي العابد.. صاح... الله!.. ويسمع كل من في الحجرة صيحة الشيخ.. الله! وقد انكفأ على (التبروقة) مغشياً عليه! ويسرع تلاميذ الشيخ الذين جاءوا بكرومة وصاحبه وقد وقفا وسط الحجرة كتمثالين جامدين لما أصابهما من دهشة.. ويصحباهما إلى خارج الدار ليكملا ليلتهما في دار العرس.. ويتركا الشيخ حتى يفيق مما غشيه من هذا الكلام الذي يدرك وحده عمق معانيه.. وليكمل ليله في عبادته وتهجده وذكره... (ملامح من المجتمع السوداني (2) - حسن نجيلة - ص:157-162). ونواصل.. { مدخل للخروج: ذكرتك والخطى ورع بكل مآذن الفن.. ذكرتك والدجى رحل ومجدك يحتوي زمني.. فوعد لقائنا الأبدي كان شعاره أني.. سأفتح فيك أبواباً ليعبر ضوؤها مني.. فهيا ها هنا نشدو جميع قصائد الحسن.. ونهدي للمدى بيتاً وعقداً باهظ الثمن.. من النجمات نغزله ونجمله على العين.. ونجعل للهوى وطناً على أعراشه سكني.. ونجعل عهدنا حباً وكل زماننا يمن..