قبل الدخول في تحليل الخطاب الثقافي للإنقاذ؛ لا بد من التأكيد على ملاحظتين، هما أن المسألة الثقافية هي من أكثر المسائل التي استوعبها الخطاب النهضوي الذي طرحته الإنقاذ في الأعوام الخمسة الأولى من عمرها، وقد حظيت المسألة الثقافية في هذه الفترة باهتمام واسع، وقد وجد ذلك الخطاب تجاوباً واسعاً وانفعالاً شديداً من كل قطاعات الشعب السوداني، أما بعد أن خبت جذوة الثورة في النفوس؛ فانكمش الخطاب الثقافي، وأصبح يبحث حتى داخل الحدود عن المبررات، وصار الحصان خلف العربة، عندها تضاءلت الكثير من المبادئ والقيم، ولأن الطبيعة لا تقبل الفراغ؛ وجدت القيم السلبية موطئ قدم لها، وأصبح حماة القيم الجديدة ينفخون فيها لتصبح هي الغالبة. من هنا نقول إن المسألة الثقافية لا زالت من الموضوعات التي لم تلق اهتماماً من قبل المفكرين والمتخصصين. وتأسيساً على ذلك؛ فإن موضوعنا هذا، في الوقت الذي نعتبره مدخلاً عاماً، فإنه في نفس الوقت يعتبر دعوة لأصحاب الاختصاص والمسؤولية لبحثه بشكل موسع وعميق، ضمن آليات مناسبة. وضرورة ذلك تشتد في الوقت الراهن من عمر السودان، أكثر من أي وقت مضى، بالنظر إلى الأساليب الجديدة التي بدأت تستخدم في الغزو الفكري، وحجم هذا الغزو وخطورته على أمن المجتمع السوداني، بالإضافة إلى ضرورة بلورة نظرية ثقافية متكاملة في البناء الثقافي، وعلم الاجتماع الثقافي، وهذا يعتبر مدخلاً جيداً للاخ السموأل خلف الله وزير الثقافة الجديد، وأظنك يا سيادة الوزير تتفق معي في أن الثقافة هي أساس التغيير الشامل، وأرجو أن لا يفهم من ذلك إهمال التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي، لأن التحول الثقافي هو الإطار الذي يجمع داخله مختلف مجالات التغيير، فنعتبر أن طريق إصلاح المجتمع يمر عبر إصلاح الثقافة، فلا يمكن لأي تغيير إيجابي أن يحدث ما دامت الثقافة الاستعمارية والثقافة التي يحاول أصحاب المنافع والمصالح أن يجعلوها أمراً واقعاً تجد مساحات واسعة في لا شعور القائمين على الأمر، ولا شعور ثلثي المجتمع السوداني، باعتبار أن الشعب السوداني جلّه من شريحة الشباب المستهدفة بالغزو الفكري. ومن هنا تنبع أهمية التنسيق بين الوزارتين، الثقافة، والشباب والرياضة، فلا ينبغي أن يعزف الأخ حاج ماجد منفرداً، وكذلك لا ينبغي للأخ السموأل خلف الله أن يفعل مثل ذلك، حتى لا يكون اللحن نشازاً. و نعود إلى قضية الخطاب الثقافي للإنقاذ، فنقول: بما أن الثقافة هي أساس كل سعادة ومصائب الشعب، أرى أن من الضروري إعطاء الثقافة بعداً أيديولوجياً، وأرى أن العملية الثقافية عملية هادفة، بل هي وسيلة لتحقيق الأهداف سواء أكانت أهدافاً شريرة أم خيرة، لأن الثقافة في اعتقادي عبارة عن مصنع يصنع الإنسان، وبهذا تختلف النظرة إلى الثقافة فعلماء الاجتماع يعتبرونها المجموع الكلي للغايات البشرية، أو أنها نمط حياة. وعلماء النفس يرون أنها مجموع العادات الاجتماعية، أما العالم الأنثروبولوجي (إدوادر تايلور) فهو يعتبرها الكل المعقد الذي يتضمن المعرفة والعقيدة والفن والأخلاق والقانون والتقاليد والعادات. ويعتبر هذا التعريف من أشهر التعريفات، إلا أن بعض العلماء ينتقدون تايلور، ويقولون إن تعريف تايلور يقتصر على محتوى الثقافة، في حين أن الثقافة هي تنظيم قبل أن تكون محتوى. أما البيولوجيون فيقولون إن الثقافة هي (الوراثة الاجتماعية)، أي أنها اكتساب وراثي أو فطري، ولكن في بلد كالسودان لا بد من إعطاء الثقافة بعداً أيديولوجياً، باعتبار أن الثقافة حركة هادفة، وأنها مبدأ التغيُّر والتحولات الاجتماعية، وأنها تحدد مستقبل الجماهير ومستوى تقدمها ونموها واستقلالها. كان خطاب الإنقاذ الثقافي في البداية متميزاً ومركزاً ومكثفاً، باعتبار أن الإنقاذ طرحت مشروعاً نهضوياً يعتمد في الأساس على البعد الثقافي والفكري الذي يحرك معه الأطروحات الأخرى التي تبنتها الإنقاذ سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وحتى عسكرياً، لأن العقيدة القتالية لنظام الإنقاذ كانت تتحرك وفق رؤية ثقافية وفكرية، وباعتبار أن الإنقاذ تمثل مشروعاً يختلف في جوهره ومضمونه عما كان سائداً من مشروعات، وأن الإنقاذ كانت تعي منذ البداية أن المصيبة العظمى للمسلمين هي هذه الثقافة الرائجة بينهم، وأن التبعيه والتخلف سببهما الهيمنة الثقافية وهذه هي الفاجعة الكبرى لأن الأمة تعتقد شعورياً ولا شعورياً بأنها فقيرة وبحاجة إلى الغرب في سد نواقصها واحتياجاتها، وهو ما يمكن أن نطلق عليه التبعية النفسية، لذلك لا بد من الانعتاق من قيود التبعية الثقافية ونيل الاستقلال الثقافي، والا سيبقى الاستقلال السياسي غير مجد، وإن كان يمثل مرحلة في غاية الأهمية، بيد أن التبعية الفكرية تجر البلاد قسراً إلى التبعية السياسية، وإن كان البلد مستقلاً في الواقع، وبالاستقلال الفكري يستقل الشعب في كل الأبعاد الأخرى، أي أن الاستقلال الفكري يتبعه بصورة حتمية استقلال سياسي واقتصادي واجتماعي، وبقدر ما نقول بمحاربة الغزو الفكري؛ نقول إننا مطالبون باكتشاف ذاتنا وأصالتنا والعودة إلى الثقافة الإسلامية، ولكن يجب أن نأخذ في اعتبارنا قضيتين خطيرتين، وألا نسمح بتمريرهما: 1 - يجب عند حصول أي فراغ ثقافي محتمل أن نطرح البديل فوراً فالقضاء على الاستلاب الثقافي مقرون بالعودة إلى الثقافة الإسلامية. 2 - خلق ثقافة وسط خلال عمليتي الهدم والبناء، فهدم الثقافة الرائجة الآن يجب أن يكون شاملاً وكاملاً وكذلك البناء الثقافي. الأخ السموأل خلف الله وزير الثقافة، إننا نطمح إلى الإعلان عن ثورة ثقافية عن طريق تحويل مؤسسات الوزارة وبالتنسيق مع الجهات ذات الصلة؛ إلى مولدات لضخ القيم والمعاني التي تتمتع بها الثقافة الإسلامية السمحة في المجتمع، ولكن قبل ذلك لا بد من التخطيط لوضع سياسة ثقافية متكاملة وأن نعمل على إنزالها إلى أرض الواقع، مرحلة مرحلة، وأن لا تظل حبيسة الأدراج كسابقاتها.