(إن الموقف الجديد الذي اتخذه عبد الواحد باللحاق بالدوحة هو ثمرة أشهر من المباحثات التي أجرتها وزارة الخارجية مع عبد الواحد ويسعدني أنه اختار السلام في نهاية المطاف).. بتلك الكلمات التي أطلقها وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير الخميس الماضي بعد لقائه رئيس حركة تحرير السودان عبد الواحد محمد نور، بدا موقف باريس متناغماً نوعاً ما مع رغبة الحكومة السودانية وأماني البروفيسور إبراهيم قمباري الممثل الخاص المشترك للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي بدارفور لدى مخاطبته ملتقى المبعوثين الخاصين لدى السودان من الدول الأعضاء الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن الدولي بالفاشر الاثنين 5 يوليو 2010م حينما قال: (لقد حان الوقت لأن يغادر عبد الواحد مسكنه المريح في باريس ويتجه إلى المفاوضات في الدوحة). تصريحات المسؤوليْن - الفرنسي والأممي - تجافي موقف رئيس حركة وجيش تحرير السودان عبد الواحد محمد نور الذي غادر السودان الى فرنسا في أعقاب رفضه التوقيع على اتفاقية أبوجا في العام 2006م، فالرجل عبّر أكثر من مرة عن زهده التام في اللحاق بركب التفاوض في أكثر من جولة بما فيها مفاوضات (سرت) بالجماهيرية الليبية أواخر العام 2007 وانتهاءً بالتي تجري الآن بالعاصمة القطرية الدوحة. ويري مراقبون أن رفض عبد الواحد للمشاركة في تلك الجولات مرده عدم قناعة الحكومة الفرنسية التي تحتضنه بتلك المبادرات من حيث ما تحققه لها من مكاسب على كافة الأصعدة، وأشاروا الى أن الأمر تفضحه مبررات محمد نور في رفضه الانخراط في العملية السلمية، وأوضحوا أن مطالب نور غالباً ما تكون تعجيزية وتحتاج لأن يلعب عامل الزمن دوراً في إتمامها، وأنها تجافي الموضوعية وعاجزة عن فتح بؤرة لضوء التفاوض لإيجاد حل لأزمة الإقليم المنكوب، بل نبهوا الى أن الهوة اتسعت بعد أن طفق نور يكيل الاتهامات والانتقادات لكل حركة مسلحة تسعى الى التفاوض مع الحكومة، بما فيها حركة العدل والمساواة بقيادة خليل إبراهيم التي قال عبد الواحد في بدايات قبولها التفاوض مع الحكومة إنها تمثل النظام القائم ولا تمثل أهل دارفور. وتشير مجريات الأحداث بعد مضي حوالي (5)سنوات من مغادرة زعيم حركة وجيش تحرير السودان وإقامته بأحد الفنادق الفرنسية بعيداً عن قواته وأتباعه، تشير الى انحسار وتضاؤل قاعدة وجماهير وشعبية عبد الواحد بدارفور، بما فيها معسكرات النازحين ومنطقة (جبل مرة) وما يحيط بها من امتداد لقبائل الفور - التي ينحدر منها عبد الواحد - بشكل واضح بفعل الانقسامات التي ظلت تضرب الحركة من جهة والعمليات العسكرية الحكومية من جهة اخرى، بالإضافة الى انتهاجه لسياسات غير مدروسة جلبت عليه وعلى حركته سخط الشارع السوداني مثل افتتاحه مكتباً لحركته في إسرائيل فبراير من 2008 وزيارته لها (سراً) في نفس الشهر من العام الماضي، في ظل انتقاد عدد كبير من قادته الميدانيين لقرارات زعيمهم وتلكؤه في اللحاق بقطار العملية السلمية وإنهاء أمد الحرب، معتقدين أن دارفور لم تعد الشغل الشاغل لزعيمهم. وكانت القيادة الميدانية للحركة قد فاجأت قائدها بعقدها مؤتمراً استثنائياً شرق منطقة جبل مرة الثلاثاء 9 فبراير الماضي، عزلت فيه عبد الواحد وكلفت القائد الميداني عبد الله خليل أبكر برئاسة الحركة لحين عقد المؤتمر العام قبل أن تشير الى استعدادها الذهاب للدوحة. القائد الميداني للحركة د. عثمان إبراهيم موسى قال إن دوافع عقد المؤتمر الخاص بالحركة جاءت بعد أن أيقنت كافة القيادات الميدانية بعدم قبول عبد الواحد لمطالب الإصلاح الداخلي للحركة عبر برنامج سياسي كامل، ورفضه فكرة وحدة الفصائل، بالإضافة الى الاغتيالات الواسعة التي تمّت بصفوف الحركة، وأضاف: عبد الواحد اعتمد على هيمنة القبيلة وإهماله للأوضاع الميدانية لجيش الحركة لفترة طويلة من الزمن، مؤكداً استعدادهم للتفاوض مع الحكومة ووضع حد لمعاناة الإقليم. ويرى مراقبون أن انحسار دور عبد الواحد السياسي والعسكري في أزمة دارفور دفع باريس الى التفكير أكثر من مرة في الاستغناء عنه والاستعاضة بأحد القادة الميدانيين لما لمسته من تراجع حاد في شعبيته وضعف موقفه العسكري في الميدان. ونبّه مدير إدارة الشؤون الأفريقية بوزارة الخارجية الفرنسية، ستيفان قومبيتز، في حديث له مارس الماضي الى أن فرنسا ربما تشرع في إيجاد قائد لحركة تحرير السودان بديلاً لعبد الواحد نور المقيم هناك. الموقف الفرنسي بقراءة لتصريحات وزير الخارجية برنارد كوشنير يبدو متبايناً بشكل واضح مع سياسات باريس التي لم تحتاج يوماً أن تستر عورة عدائها الواضح للحكومة السودانية بثوب الدبلوماسية الفضفاض. فرنسا صعدت على السطح تعد أكبر الدول الداعمة والمحركة للمحكمة الجنائية الدولية التي طالبت 5 مارس 2009 بتوقيف رئيس الجمهورية المشير عمر البشير بتهمة ارتكاب جرائم حرب وإبادة بإقليم دارفور، وأعقب ذلك تهديد باريس بإمكانية اعتقال الرئيس السوداني جواً حال خروجه من الخرطوم، والأمر برمته يفتح أقواس التساؤلات على اتساعها. هل اقتنعت باريس أخيراً بدعم العملية السلمية بدارفور وفتح نفاج في جدار علاقتها مع الخرطوم؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون تبادلاً للأدوار يجسّد مقولة إن السياسة لا يوجد بها أصدقاء دائمون؟ مصادر دبلوماسية مطلعة في العاصمة الفرنسية باريس رجحت أن يختار نور اللحاق بالعملية التفاوضية بالدوحة مضطراً، بعد أن يئست باريس من استغلاله كورقة ضغط على المؤتمر الوطني عقب الاستحقاق الانتخابي الذي أشارت الى أنه جاء بعكس ما تشتهي سفن باريس من حيث أن نتيجة الانتخابات كانت مفاجأة. وقال المصدر لأحد المواقع الإخبارية إن المفاجأة كانت صاعقة بالنسبة لدوائر صنع القرار في فرنسا التي كانت تعول كثيراً علي سقوط الوطني وعدم تحقيقه مكسباً انتخابياً بالذي حصل عليه مما يقوي من موقف حركات دارفور المسلحة بما فيها عبد الواحد، واوضح ان المسؤولين الفرنسيين تكتموا ومن ثم تضاربت حساباتهم وازدادت دهشتهم حين تقبل المجتمع الدولي نتيجة الانتخابات وتقبلها الشعب السوداني بطيب خاطر، بمن فيهم اهل دارفور الذين ينتمي إليهم نور. وفيما شدد مراقبون على أن باريس لم تتنازل عن عدائها البائن للسودان وأنها ما زالت غير مقتنعه بالعملية السلمية على نحو ما يجري، وأنها رأت أن تتعامل مع مجريات الأحداث والحزب الحاكم بسياسة الأمر الواقع، أكد المحلل السياسي، مدير مركز الدراسات السودانية، د. حيدر ابراهيم، أن فرنسا مقتنعة بمبدأ إتمام العملية السلمية بإقليم دارفور أكثر من علاقاتها بالخرطوم، وأن اختلافها مع الحكومة كان حول الآليات والوسائل في تحقيق السلام، مشيراً إلى أن تصريحات وزير خارجيتها لديها علاقة مباشرة بمسألة السلام في دارفور، وقال ل (الأهرام اليوم): لو اكتمل السلام فعلياً بدارفور ستبدأ مرحلة جديدة في العلاقات السودانية الفرنسية، وأضاف أن حجر العثرة في العلاقات بين الدولتين سلام دارفور، ومتى ما تم فسيفتح الطرفان صفحة جديدة. وتوقع مدير مركز الدراسات السودانية أن يلحق عبد الواحد بركب العملية السلمية، وأوضح أن ذلك سيفرض ترتيبا لمنبر جديد بقيادة فرنسا وليبيا والدوحة ومصر، يستصحب رئيس حركة العدل والمساواة خليل ابراهيم، وقال إن اتفاق الدوحة الآن في خواتيمه وأقصى موعد له الخامس عشر من الشهر الجاري، وأتوقع منبراً جديداً بأجندة وفصائل جديدة في هذه المرحلة، وأضاف أن مستشار رئيس الجمهورية الممسك بالملف، د. غازي صلاح الدين أشار إلى أن هناك استراتيجية جديدة في التعامل مع مفاوضات الدوحة، ونبه إلى أن ذلك يعني أن الحكومة ستسعى لجعل حركة التحرير والعدالة بقيادة د. التجاني السيسي جزءاً من المنبر الجديد. ورغم ان الملمح العام لتصريحات عبد الواحد محمد نور المتزامنة مع تأكيدات وزير الخارجية الفرنسي كوشنير، وأماني البروفيسور إبراهيم قمباري، يشير إلى تمسكه بما سبق، وإن طالب به كشروط للجلوس بين يدي التفاوض، إلا أن سقف المطالب في أوقات كثيرة لايستقر على حال وتتحكم فيه عدة عوامل، وفي حالة رئيس الحركة الدارفورية المتواجد بأحد فنادق باريس، فإن مراقبين قالوا بأن فرنسا باتت تفكر جديا في دفع فواتير إقامة وإعاشة قيادات الحركات المتواجدة بين ظهرانيها في أسرع وقت، بما يضع الأماني الدولية والتأكيدات الفرنسية حيز التنفيذ.