تُعد ولاية النيل الأبيض من الولايات التي تقوم على أرضها مشاريع باذخة وتنموية كبرى، ينعم بها السودان جميعه، ونفخر بها بين الدول، مثل شركة كنانة، وسكر عسلاية، وشركة سكر النيل الأبيض، ومصنع الأسمنت بربك، ومشاريع البترول، وغيرها، من النسيج وكثير من المصانع والثروات ومصنع الإيثانول العظيم. ولكن عندما قلت (شجرة الدليب)، للذين يعرفون شجر الدليب، فهو شجر ضخم، وله ظل ظليل وجميل، ولكنه دوماً يقع في المنطقة البعيدة والطرفية منها، وتجد تحت الشجرة مباشرة الحر والسموم الذي «يلفح»، فهي شجرة «أجوادة» إلا على نفسها، وأظن القارئ قد أصبح الآن مدركاً لما سأدلي به في مقالي الآتي: دوماً في السودان تظل قضية التنمية هي المحرك الحقيقي في الساحة السياسية، والنعرات والثقافات، وتقاطعاتها وتواصلها، وتظل حديث المدينة نتيجة لأنها هي المحدد لبقاء العناصر وحياة الإنسان واحتياجاته، كما تظل هي الأسوأ تقديراً لدينا لأننا بلاد نامية ولأننا نعالج الأمور بشكل جزئي. لا يغيب على أحد كيف استفادت المناطق التي قامت عليها مشاريع تنموية جديدة، كما في ولاية نهر النيل وفي الولاية الشمالية والولايات الجنوبية والبحر الأحمر، ولا يغيب على أحد «البروتوكول» الذي قام عليه مشروع قديم كما حدث في مصنع سكر الجنيد، من عقد يضمن لإنسان الجنيد الفائدة المباشرة من المشروع، فلماذا لم تستفد ولاية النيل الأبيض من المشاريع القديمة مثل كنانة، أو الجديدة كسكر النيل الأبيض؟ لماذا يظل إنسان هذه المنطقة في القرى هو الأسوأ ضمن كل قرى السودان، من حيث قلة الخدمات وانعدامها أحياناً؟ هل هذا يرجع لطبيعة وطبع هذا الإنسان المتسامح؟ أم يرجع لمن يقومون على أمر هذه الاتفاقات؟ لا أحد ينكر قومية هذه المشاريع، لكن بلا شك هي تقوم على أراض كانت ملكاً لهؤلاء البسطاء، وتقوم على صحة أبنائهم منذ أن كانوا بالأرحام من جراء مخلفات المصانع، وأذكر عندما كنا صغاراً بمدينة كوستي عندما يأتي حصاد كنانة يصلنا القصب المحروق وأوراقه المتناثرة داخل المنزل، قاطعاً النيل، وتقوم الأمهات بالنظافة والخدمة المجانية للمصنع ولا أحد يدري ما هو حقنا على هذا المصنع الذي تصلنا مخلفاته «الورقية» والكيميائية دونما تخصيص في الناتج؟ لدرجة أن كثيراً من البيوت ليس بها رطل سكر واحد. من أسوأ أنواع الجهل هو عدم الوعي بالحقوق في بلاد تقسم الثروات على حسب الحركات المطلبية والضجة والزوبعة في الفنجان!! لا أدعو إلى تكوين جسم ينادي بحقنا في مال التنمية ومشاريعها، أو ينادي بالوظائف في المصانع جميعها بدلاً عن حكومة الولاية، لكنني مبدئياً أدعو حكومة الولاية للوعي بحقوق منسوبيها الذين ينامون في «أم رمتة» و«أم بويرة» و«أبو ركبة» و«الدافوري» وفي «جودة» و«الدقجة» وغيرها، وليست لديهم مدارس بمستوى لائق، ولا يجدون الماء الفرات الصالح للشرب، فقط بأن يقوموا بواجباتهم وأن يعوا خصوصية هذه الولاية وموقعها الإستراتيجي الملامس للجنوب، التي تعتبر رباطاً قوياً في حالة الوحدة، وعقدة قوية، وتعتبر جسراً للتواصل في حالة «الانفصال» لا قدر الله، وتعتبر ارتكازاً وأولى الثغرات في زمن الحرب لا قدر الله أيضاً. أهالي هذه الولاية لا ينقصهم الوعي بالمطالبة، ولكنهم كثيرو الصبر ويزيدهم إيمانهم بوحدة الوطن ألا يكونوا جزءاً من الصراع، ولكنهم يودون أن يكونوا إحدى آليات التكاتف لأنهم أكثر ولاية ستتأثر بالانفصال والتداعيات التي تليه. وهذا ما جعلني وعدد من الإخوان نتحرك هذه الأيام عبر «منظمة شباب بحر أبيض للتنمية» التي قمنا بتسجيلها في العون الإنساني منذ أكثر من عامين مع زمرة من الصادقين الذين يتحركون بوعي طوعي وكانت وعاءً لنا من كل أطياف المجتمع بغض النظر عن اللون السياسي ولا نعمل لمصلحة تنظيم محدد، ولكن تهمنا ولاية بحر أبيض التي عانت من سوء القيادة لزمان طويل، وسوء تقديرات القائمين على الأمر مما جعل أهلها لا يعرفون ثمرة لهذه المشاريع الكبيرة، ووقفت مشاريع الزراعة بصورة كبيرة مما جعلها في مقدمة الولايات صاحبة الهجرة الأكبر إلى الخرطوم، والآن يهمنا توحيد أهل السودان بشكل أساسي ونعلم أن قرار الوحدة الآن قرار سياسي في المقام الأول نسبة لتكوينات ما قبل الحداثة التي تسيطر على البلاد بصورة عامة، وعلى الجنوب بصورة خاصة، ولكن إذا حدث هذا الاتفاق وتمت التسوية؛ يكون دور المنظمات في إنزال مفهوم الوحدة للمجتمع ومكوناته هو الأهم، حتى لا نعاني ما عانيناه من السلام الذي جاء باتفاق سياسي ذكي ورائع، لكنه فقد المركبة الشعبية في التبشير بالسلام، فنحن نحتاج - كمنظمات مجتمع مدني وطنية - أن نسبق السياسيين وأن يتيحوا المساحات للناس، وأن يمكنوا لها. والآن بعض القائمين على أمر المؤسسات التنموية بالولاية يتعهدون بالعمل المجتمعي والطوعي داخل الولاية، مثل المدير العام لمصنع الإيثانول المهندس أحمد موسى الذي دعم قافلة صحية سابقة ويقف خلف كل ما يدعم الاستفتاء ولكننا نطمح في أن تتبنى كنانة وغيرها عملاً اجتماعياً وتنموياً كبيراً داخل مناطق الولاية مثل حفر الآبار وبناء المساجد أسوة بسوداتل وبعض المشاريع الكبيرة. ونحن حتى الآن - كشباب ولاية - نتوقع رشداً كبيراً من القادمين، ونمهلهم، ولكننا أيضاً نترصدهم، وهذا حق مكفول لنا لأننا صوتنا لهم، ولا خير فيهم إن لم يسمعوها. ونلتقي في هذا الصدد.