السياسة والإدارة توأم سيامي، أو قل ما يفصل بينهما خيط رفيع، وقد مارست المجتمعات منذ نشأتها الأولى أنماطاً من الإدارة غير العلمية، أي بالفطرة والسليقة، أما الإدارة كمنهج علمي وفن؛ فقد بدأت بالظهور في أوائل القرن التاسع عشر، ثم أصبحت لها مدارس متعددة، كالمدرسة الكلاسيكية، والمدرسة السلوكية، وغيرهما. وآخر هذه المدارس الإدارية هي (مدرسة الإدارة بالجودة الشاملة)، وتهتم بجودة المنتج بحيث يكون مطابقاً للمعايير والمقاييس والاشتراطات التي ينص عليها التشريع الفني للمواصفة، سواء أكانت صادرة من جهة عالمية أو إقليمية أو قطرية كالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس مثلاً. والإدارة بالجودة الشاملة تقوم على مبدأ ضبط الجودة في جميع مراحل العملية الإنتاجية، بحيث تكون نسبة احتمال حدوث الخطأ تساوي صفراً!!! هذا وقد بدأ تطبيق هذا النمط من الإدارة في المصانع، إلا أنه سرعان ما شمل أنواعاً مختلفة من الخدمة التي تقدمها المرافق العامة، وهي عملية صعبة ومعقدة، وعلى ضوء ما تم ذكره آنفاً يمكنني سحب هذا المفهوم من الإدارة إلى الإنسان نفسه، كمنتج بشري تؤثر فيه الكثير من العوامل البيئية والعلمية والعقدية والأنثروبولوجية، سلبياً كان ذلك أم إيجابياً. وقد أقر القرآن بوجود فروق بين الناس في المراتب والقدرات وغيرها، إذ يقول الله سبحانه وتعالى (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) «الإسراء 21». كما ذكر القرآن الكريم في كذا موضع مراتب للنفس البشرية بدءاً بالنفس الأمارة ثم اللوامة ثم المطمئنة الراضية. وهناك حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم مفاده أن الناس معادن فيهم الذهب والفضة. وإن جاز لي القول إن هناك عشر شخصيات سياسية سودانية مطابقة لمفهوم معايير ومقاييس ومواصفات الجودة الشاملة؛ أستطيع القول وبكل ثقة إن مولانا أحمد محمد هارون والي ولاية جنوب كردفان يأتي في مرتبة متقدمة بين هؤلاء. فهو منتج سوداني متميز وعالي الجودة، اجتمعت فيه العديد من الصفات النادرة، والقدرات الفذة، التي مكنته من أن يكون ناجحاً في أي موقع قذفته إليه (الإنقاذ) بدءاً بتوليه مسؤولية إدارة السلام بجنوب كردفان، مروراً بمنصب وزير الشؤون الاجتماعية فيها، ثم صار منسقاً عاماً للشرطة الشعبية بالسودان، ووزيراً للدولة بوزارة الداخلية، وكذلك بوزارة الشؤون الإنسانية، وانتهاءً بتوليه منصب والي ولاية جنوب كردفان، تلكم الولاية صعبة المراس، التي استطاع أن يحدث فيها تغييراً دراماتيكياً، لا سيما في الجانب الأمني، إذ أصبحت الولاية تنعم بالأمن والاستقرار، وغابت تقريباً الخروقات الأمنية وظاهرة قطاع الطرق والاحتكاكات بين المزارعين والرعاة، كما وضع بصمات واضحة على المجالين الخدمي والتنموي، وكذلك استطاع أن يكوِّن ثنائياً منسجماً ومدهشاً مع نائبه عبد العزيز الحلو من الحركة الشعبية، وهذا ما فشل فيه كل الذين سبقوه، كما استطاع أن يصل كل بقاع الولاية التي كانت أجزاء كثيرة منها حصرية للحركة الشعبية، وكذلك قام بحل الكثير من المشاكل العالقة والمزمنة، وقد ساعدته في ذلك قدراته المهولة في إدارة التنوع والتعدد الموجود في الولاية، وتفهمه التام لخصوصيتها. ولا زلت أذكر الأيام العصيبة التي مرت بها الولاية قبل قدومه إليها، والمتمثلة في التفلتات الأمنية، والشد والجذب والمشاكسات بين شريكي الحكم، وأشهرها قضية الصراع الذي نشب بينهما في أحقية كل منهما بمنصبي الرجل الأول والثاني في المجلس التشريعي بالولاية، ناسين أو متناسين أن الشعب هو أولاً وأخيراً. وكنت آنذاك كتبت مقالاً ساخراً تحت عنوان (حوار الطرشان في جنوب كردفان) حيث لا يسمع ولا يستجيب أحد للآخر، ونظراً لما حدث في الولاية من أعاجيب؛ تمنى البعض الرجوع إلى أيام الحرب (الجميلة)! وقد سمى البعض متهكماً الولاية بولاية (جنون) كردفان (بالنون)، وقد سبق هذا الاسم ظهور مرض جنون البقر!! وعلى الرغم من أن هذا المسمى كان قاسياً علينا نحن أبناء الولاية؛ إلا أن تتابع وتفاقم الأحداث اللامنطقية جعلني أكتب مقالاً تحت عنوان: ولاية جنوب كردفان (والشيزوفرينيا السياسية)، وهي عتبة متقدمة في سلم الوصول إلى الجنون. وعندما ادلهم ليل الولاية، وحيث لا ضوء في نهاية النفق؛ قال لي أحد الزملاء الذين يعلمون في ولاية جنوب كردفان مقولة مأثورة وهي (لا خير في جنوب كردفان بعد الآن)، وحزم أمتعته وذهب إلى غير رجعة، وليته يرجع ليرى بأم عينيه ما حدث من تطور لافت للولاية، ليبدل مقولته الأولى بأخرى تقول (الخير كله الآن في جنوب كردفان). إن مولانا أحمد محمد هارون تولى كل هذه المناصب وهو ليس مدعوماً من أسرة ذات سلطان أو جاه أو مال، ولا من قبيلة أو طائفة، ولكنه تبوأ هذه المواقع المرموقة بعلمه وكسبه وإخلاصه وتفانيه ونجاعته وإنجازاته التي تتحدث عن نفسها، حتى بات أنشودة عذبة يتغنى بها كل لسان في زمن تكالبت فيه الأحزان على الإنسان. وأذكر في إحدى خطب الجمعة بمسجد جامعة البحر الأحمر ببورتسودان، تناول الخطيب الشيخ محجوب، وهو رجل مفوه، موضوع فن القيادة والحكم الراشد، وقد ضرب مثلاً في ذلك بثلة من بينهم والي ولاية جنوب كردفان مولانا أحمد محمد هارون، رغم أن عمره كان في الولاية لا يتعدي ثلاثة أشهر ونيف، وقد أصاب الخطيب كبد الحقيقة، لأنه بالفعل قائد فذ عرفته ميادين العمل العام، وعركته التجارب، وصقلته الخبرات، فضلاً عن أنه رجل سليم المنطق، قوي الحجة والشكيمة، وما هو بلين كل اللين لينثني، ولا بيابس فينكسر، عوان بين ذلك. هذا بجانب مقدراته السياسية والإدارية والقانونية بصفته قاضياً سابقاً، والكارزمية ذات التأثير الطاغي، وفي الوقت نفسه يتمتع بصفات إنسانية نبيلة كالصدق والأمانة والعدل والورع والتسامح والأدب الجم والتواضع، وكأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يفضح أعداء السودان عندما وصموا أهم فلذات أكباده بصفات يعلم الشعب السوداني أنهم عكسها تماماً، وأقول لهؤلاء وأذنابهم إن من تتهمونهم بالإبادة الجماعية هم في حقيقة الأمر يمارسون النهضة الجماعية، ومن تصفونهم بمرتكبي الجرائم ضد الإنسانية تتجلى فيهم الإنسانية في أبهى صورها وأسمى معانيها. إن مولانا أحمد محمد هارون، أو حكيم حكماء الولاية كما يحلو لي أن أسميه، يجب أن يعطى فرصة أخرى لإكمال ما بدأه من منجزات، لأنه بمثابة الربان الماهر القادر على قيادة سفينة جنوب كردفان ليمخر بها عباب بحر متلاطم الأمواج ليصل بنا إلى شاطئ الإعمار والتنمية والرفاهية بإذن الله. وبما أن الانتخابات التكميلية للولاية قاب قوسين أو أدنى؛ فإنه الخيار الأنسب للمرحلة القادمة، لا سيما أن الولاية مقبلة على استحقاق المشورة الشعبية، ولا شك أن مواطني الولاية يدركون ذلك جيداً، ويؤيدونه بشدة، وهذا ما لمسته إبان وجودي في إجازاتي السنوية بمحلية العباسية تقلي، تلكم المحلية التي عُرف أهلها بصعوبة انقيادهم، ومواقفهم الحذرة والمتأنية تجاه الحكام، إلا أنهم في هذه المرة إن لم يكونوا جميعهم فإن السواد الأعظم منهم وبمختلف ألوان طيفهم السياسي والإثني يجاهرون بدعمه اللامحدود. وأحسب أن هذا هو رأي الأكثرية من شعب جنوب كردفان، كما أتمنى أن يبرهن ويثبت أهل الولاية درجة وعيهم المعهود، ويخرجوا هذه الانتخابات التكميلية في ثوب قشيب وبطريقة سلسلة وهادئة تعكس رقي وحضارة شعب جنوب كردفان. وأخيراً أقول الشكر كل الشكر لمولانا هارون الذي جعل الكل يمنح الولاية شهادة الصلاحية والصحة والعافية بعد أعطاب ومرض عضال، ولا شك أن شعب جنوب كردفان سيعطيه فرصة أخرى، ليمنح الولاية شهادة التميز(I.SO) آيزو 2015م. ضابط إداري بورتسودان