أجواء الغيوم تفعل فينا ما تفعل .. ووالله أظن أن الغيم لو ساد في السودان .. لبضعة أشهر فقط .. لتحول السودانيون .. جميعا .. إلى مبدعين كل في مجاله. أثق أن الشمس تهدر ثلاثة أرباع طاقاتنا .. فحرارة الجو التي تسود في السودان، تشيع إحساسا مستمرا بالإرهاق، وتنهك قوانا باكرا، وتقلل إنتاجيتنا، وتصيبنا بأمراض مهلكة على رأسها السحائي العتيد . وحين يأتي الغيم، تسري الانتعاشة في أجسادنا، ونحس بالطاقة الكامنة داخلنا .. ونستمتع بوهجها ولمعانها، فتنفتح شهيتنا للطعام، وتنشرح صدورنا للغير، وتتفتح أزاهر الحب في قلوبنا، وتتألق الحيوية فينا .. فرحا وانطلاقا ! أمس كان أحد أيام الغيم، حيث اكتست سماء الخرطوم بالسحب المتحركة يمينا وشمالا، فساد الشعور بالبهجة والراحة. صحيح أن الغيم كان متقطعا، وكان ينهزم في معظم الأحيان أمام سطوة الشمس وقوة هجومها، لكن لحظات الاندحار الشمسي القليلة .. كانت كفيلة بإنعاش الأعصاب، وتحفيز المصطلين بنيران الشمس لاقتناص لحظات سعادة .. أبت شمسنا إلا أن تلتهم معظم مكوناتها.. في كل فصول السنة ! كنت دائما أتساءل، لماذا تبرز الكثير من المواهب والقدرات السودانية، حين يهاجر أبناؤنا للخارج، ولماذا يلفتون الأنظار بتميزهم، فيكونون محل الاحتفاء في الدول التي يهاجرون إليها، رغم أنهم كانوا في السودان .. أشباحا باهتة .. تعاني أوجاع التجاهل .. والتهميش .. وربما الموت جوعا ؟! واكتشفت أخيرا .. أن السوداني هو السوداني .. سواء داخل السودان أو خارجه .. إنسان يحمل الكثير من النبوغ الواضح، والذكاء الفطري، والقدرة على العطاء، لكن أجواء الحرارة العالية في السودان، والمرافق غير المهيأة لترويض جموح تلك الحرارة، إضافة لأمراض الصيف، تقف عوامل متحالفة لهزيمة المواطن، وتشتيت جهده، وإشاعة الخمول في قدراته الجسدية والفكرية والعملية . وكثيرون، بالمناسبة، يتساءلون عن السر في تسمية هذا العمود ب (تحت الغيم)، والبعض تفضل بإعطاء تفسير للتسمية حسب ما رآه من مكونات العمود، ومن أكثر التفسيرات التي لفتت نظري، ما ساقه الأستاذ مصطفى أبو العزائم، رئيس تحرير (آخر لحظة)، حين قال إن تسمية (تحت الغيم) تعني الكتابة بمزاج رائق ! تفسير التسمية .. سيكون مثل المعنى الذي في بطن الشاعر، لكن أجواء الغيم، بكل ما تثيره من أحاسيس مرهفة، وما تنعشه في الكوامن من طاقات .. وذكريات، ورؤى عميقة، ونظرات متأنية، ترمي بظلالها على المعنى، وتفتح أفقا للتأمل فيما يمكن أن يحتويه العمود من مساحات الكلام ومجالاته . نماء السودان .. يبدأ من تلطيف أجواء العمل، وتحفيز الناس بالتكييف الرخيص المتاح لجميع الفئات. . فذلك مربط الفرس، وتلك نقطة الانطلاق.