أظنُ أنّ الأكثريّة منكم يعلمون أنّ كاتبَ العمود اليومى علاقته بقرّائه تقترب من التعاقد، ومن معاني ذلك أنّه يقترب من التعاقد على حُكْمٍ مؤبّد، الطَرَف الأوّل فى هذا العقد حضراتكم وحضراتكنّ، والطرف الثاني هو كاتب العمود، وليس من حق الطرف الثانى التحلّل من العقد إلا بمرضٍ الموت أو بالموت نفسه... وربّما يكون من (الأليق) أنْ يخرج كاتب العمود صباح اليوم التالي لوفاته لينعي نفسه بنفسه، يمكنه بعدها التحلل من العقد (المُبرم) مع القُرّاء! لا يمنح السفر كاتب العمود شهادة إعفاء... فلو كان كاتب العمود فى أجواء الطائرات أو سكك حديد القطارات أو الطرق البرّية فعلى عموده أنْ يُشرق من هناك، ومهما تبدّل جدول العمل فى مدن السفر يبقى العمود بقاء الأكل والماء والصلاة! على مدار شهرين كاتبتكم من خارج السودان... الكتابة عن السودان من خارجه كتابة من وضع معكوس، فمعَ إنّ البعض يراها حالة من (الحياد الإيجابى)، لكنّ آخرين ثبتَ لهم أنّ الكتابة عن السودان من خارجه تُفْقِد العمود أهم خصائصه وهى درجة حرارة الإنضاج التى تصنعها الشمس، ومع إنّ شمس الله فى كل مكان وإنْ احتجبتْ لكنّ شمس الله فى السودان هى درجة الحرارة الملائمة لإنضاج العمود... لذلك خيرٌ لكاتب العمود عندما يكون خارج السودان اصطحاب قرّائه معه دونَ التُقيّد بشرط الفيزا! إذا أصرّ كاتب مُغامر على الكتابة عن السودان من خارجه، فعليه أنْ يكتب من نيوجيرسى وكأنّه يكتب من أم دقرسى، ومن روما كأنّه فى أروما، ومن جنوة وكأنّه فى الجنينة، ومن تل ابيب إذا كان جواز سفره يسمح وكأنّه يكتب من جوبا! سيرتي العموديّة أنّنى عندما أسافر إلى خارج السودان أهرب من الباب فيأتيني السودان من النافذة، وأهرب منه بالسلالم الكهربائيّة فيلاحقني بالاسانسير! أعود إلى الكتابة تحت درجة الحرارة الطبيعيّة لإنضاج العمود، لكنّي لا أكذبكم بأنّني أشعر بنشوة الإنتصار لإيفائي بالعقد غير (المُبرم) بيننا... يا أصدقائي، جَنّة الله محفوفةٌ بالمكاره وناره محفوفةٌ بالشهوات، لكنّ كتابة الأعمدة محفوفةٌ بالمكاره والشهوات معاً