عندما قصدنا مدينة بحري منتصف الشهر الماضي في إطار زياراتنا كمجموعة عمل تتبع لشركة سيقا القائمة على مبادرة (الأول يكرم الأول)، والقاصدة لتكريم أوائل الشهادة السودانية من التخصصات المختلفة، بابتعاثهم لبريطانيا لتلقي كورسات مكثفة في اللغة الإنجليزية، في ذلك اليوم كُنّا نعتقد بأننا في زيارات ميدانية عادية نهنئ فيها متفوقي الشهادة السودانية الذين شملتهم المبادرة ونخبرهم بالخطوات اللازمة للتجهيز لسفرهم والاحتفاء بتفوقهم. كان جدول أعمالنا في ذلك اليوم طرق باب الأستاذ عبد الله إبراهيم النور سوار الدهب، وذلك لتهنئة كريمته ميّاسة الحائزة على المركز الأول في القطاع النسوي على مستوى السودان، ولكن ما جعل من تلك الزيارة حدثاً تعلمنا منه الكثير؛ أن مياسة في حقيقة الأمر هي خريجة معهد الأمل للصم والبكم. فقدت مياسة القدرة على النطق والسمع منذ طفولتها الباكرة، إلا أن التفاف أسرتها ذات الوعي المتقدم حولها وتعاملهم مع الظرف الخاص بها بقدر عال من التفهم والإدراك للدرجة التي جعلت والدتها تتلقى بعض المساعدة المتخصصة من أحد المعاهد ذات الصلة في باريس في كيفية التعامل مع طفلة لا شك أنها تحتاج لنوع معين من التربية؛ الأمر الذي كان له كبير الأثر في نشأة مياسة في محيط أسري قادر على استيعاب خصوصية وضعها. أن مالفت نظري في مياسة لم يكن فقط تحديها للإعاقة وتقدمها الأكاديمي في ظل هذه الظروف المُعقدة، بل كان أيضاً هذا الذكاء الاجتماعي الملهم من فتاة صغيرة في العمر إلا أنها قادرة على التعامل مع محيطها الأسري والاجتماعي بثقة جديرة بالإعجاب. وبرغم أن مياسة بطبيعة الحال كانت صامتة ونحن نتجاذب أطراف الحديث مع أسرتها في هذا الجو العائلي الذي اتسم بالأريحية الزائدة والاستقبال الدافئ والضيافة الكريمة، إلا أن حضورها كان طاغياً في كل اللحظات تبتسم بابتسامتها الوضيئة متى ما التفت إليها الناس، وتقوم على خدمة ضيوفها بحماس وود كبيرين من أصناف المعجنات المختلفة التي قامت بصناعتها بنفسها. الصبية لديها مواهب مشجعة في الرسم والتصميم.. حين إطلاعك على دفاتر رسوماتها الجميلة والمنظمة، فإن الاعجاب لا محالة سيتملكك.. ومياسة تستطيع أن تقرأ لغة الشفاه وتستطيع أن تدير حواراً يُظهر إمكانياتها في التفكير والتفاعل الاجتماعي.. ترغب اليافعة في دراسة الفنون الجميلة وهي متنازعة بين الديكور والتصميم. والدتها السيدة الكريمة سمية علي أبو القاسم ذكرت أنهم لا يتعاملون معها الآن بشكل خاص، وهي تعي جيداً حقوقها وواجباتها الملقاة على عاتقها في هذا المنزل.. كان واضحاً أن الحب الذي يجمع الأم بابنتها غير مسموح له بأن يحيد بالتربية عن مقتضياتها السليمة. ميادة وعبادة أخوات مياسة ذكرن أنهما دائماً مايلجأن لمساعدتها في ما يتعلق بالجوانب الفنية في استعمال الكمبيوتر والتعامل مع الإنترنت. هذه الزيارة التي تذكر أن إرادة الإنسان قادرة على قهر المستحيل وأن الأمر ليس أمر تعايش وإنما طموحات متقدمة تفكر فيها مياسة بإيمان كبير، كما بدا لي أنها آخر من يفكر في أمر إعاقتها.. ذلك أن دواخلها مليئة بالأمل والتحدي والعزم الأكيد. هذه الفتاة الجميلة سيكون لها شأن لا شك في ذلك، عزيمتها وأسرتها هما سر ذلك النجاح الذي مضى والذي هو آتٍ في مُقبل الأيام.