ومن الحقائق الثابتة ان الكثير من البشر يحسنون التأمل وتتهادى اليهم اعظم الافكار اثناء وجودهم خلف المقود. ولأن علمى بالسيارات كان قد بلغ شأوا بعيدا، او هكذا خيل لى، فقد شعرت بجرح غائر فى كبريائى عندما اوقفت سيارة اجرة ذات يوم من ايام العام الماضى فى مدينة القاهرة وجلست بجوار السائق ثم حاولت، كما هى عادتى، ان اتعرف على نوع السيارة من خلال النظر الى جزئياتها من الداخل. وكل السيارات فى الدنيا لها علامات وايحاءات معينة تعرف منها نوع السيارة دون ان تكون قد قرأت ما هو مكتوب على السطح الخارجى بالاحرف اللاتيينية، ولكن الامر استغلق على استغلاقا. وعندما شعرت بالخيبة اضطررت لسؤال السائق المصرى عن نوع السيارة وطرازها فأجابنى على الفور: ( العربية دى شاهين يا بيه ). قلت له: ( شاهين مين؟ انا اسألك عن ماركة السيارة)، فرد السائق: ( ايوة يا بيه، ما هى العربية دى ماركتها شاهين). يا للهول. هل هناك فى الدنيا عربة اسمها شاهين؟ ولكن السائق اكد لى ان هذا هو الاسم الصحيح، وان السيارة مصنوعة فى تركيا. وزاد الجرح الغائر فى كبريائى عندما أتانى فى المساء الصديق الشاب اللامع فى سموات المحروسة، عمار فتح الرحمن شيلا، سكرتير تحرير مجلة (الملتقى) ومراسل صحيفة (الاحداث) بالقاهرة ليأخذنى الى مكان ما، وما ان دخلت الى سيارته ذات المقاعد الجلدية الوثيرة حتى شرعت فى ممارسة ذات الهواية محاولا معرفة ماركة السيارة بالنظر الى تفصيلاتها الداخلية ولكن بغير جدوى. اخبرنى عمار بعد ذلك ان سيارته صينية الصنع وذكر اسماً لها استعصى علىَّ حفظه، فاندهشت مرة اخرى. الصين تصنع سيارات؟ منذ متى؟ لم اسمع قط عبر حياتى كلها عن سيارة صينية. واقتنعت اخيرا ان السيارات اللئيمة، ذات الارجل المطاطية الاربعة، قد تجاوزتنى الى آفاق جديدة وتركتنى وراءها محسورا، واننى لم اعد ذلك الخبير الدولى الذى يعلم دبيب النمل فى مجالات صناعتها وخصائصها، لا سيما بعد ظهور السيارات الكهربائية، والسيارات التى تسير بالكحول، والهايبرد كارز، والسيارات الصديقة للبيئة التى لا تزيد من انبعاث الغازات، ثم الردة الامريكية بإنتاج سيارة (همر) التى تشبه الدبابات المستخدمة فى الحروب. وقد تبرع عمار بعد ذلك مشكورا فزودنى بمعلومات تفصيلية عن السيارات المنتشرة فى طول القاهرة وعرضها، حيث لفت انتباهى الى العدد الكبير من السيارات الايرانية والتركية والاسبانية والصينية التى تتمخطر من حولى جيئة وذهابا بأسماء ماركات وطرازات ما انزل الله بها من سلطان. ثم إننى تذكرت ان السودان نفسه اصبح يصنع، او بالاحرى يقوم بتجميع السيارات، فأصبحت السيارات «خشم بيوت». فعند زيارتى الاخيرة لاحظت الاعداد الوفيرة من السيارات الكورية المجمعة فى السودان تحت اسم ( جياد ). وهى سيارات لا بأس بها ابدا. وقد وضعت سيارة جياد السودان فى موقع متقدم على مصر ذات الهيل والهيلمان والسابقة التاريخية فى مجال الصناعة التجميعية للسيارات، اذ ان مصر افترعت هذا الطريق فى بواكير الستينات حين انتجت سيارات (نصر) بالتعاون مع (فيات) الايطالية، كما انتجت سيارة مصرية خالصة باسم (رمسيس)، الا ان تجربة انتاج «رمسيس» هذه فشلت فشلا ذريعا اذ كان عادم السيارة (او «الشُكمان» بالعامية المصرية) يصدر اصواتا مرعبة عند انطلاقها لكأنها اسرافيل ينفخ فى الصور يوم القيامة. وقد انتهت تجربة صناعة السيارات المصرية الى ما انتهت اليه روسيا من خيبة وبوار، واكاد اظن ان مصر قد توقفت عن انتاج السيارات كليا. ولكن الخبر اليقين عند عمار. ومع ان نجاح تجربة السودان فى انتاج سيارة يعتبر خطوة موفقة لحد كبير، وان اسم السيارة السودانية «جياد» اسم جميل يبعث على التفاؤل، فقد شعرت بنوع من الغضب والغبن معاً حين اشاع بعض مناضلى الكيبورد، ممن اثار حنقهم مشاركة بعض الكتاب الصحافيين المقيمين بالخارج فى مؤتمر الحوار الاعلامى بالخرطوم قبل عدة اعوام، أشاعوا ان العصبة المنقذة قدمت انواعا من الرشاوى لهؤلاء الكتاب، منها انها منحت كل من حضر الى المؤتمر منهم سيارة ( جياد ). لم يغضبنى الاتهام بالرشوة فى حد ذاته، بقدر ما حز فى نفسى نوع السيارة التى وقع عليها الاختيار. يا لهؤلاء المخابيل. لا يعرفون قدرى.أنا ارتشى فى آخر عمرى بسيارة «جياد»؟ والله لا يكون ذلك الا فى الزمن الردئ! ولم يعجبنى فى اشاعة السيارة ايضا انها جمعت كل الكتاب الصحافيين تحت مظلة رشوة موحدة. وهو زعم لا يوافق العقل ولا يوافى المنطق. لماذ؟ لان الكتّاب مقامات. هل يعقل ان تتم رشوتى انا، مصطفى عبد العزيز البطل على سن ورمح، بسيارة جياد، ويكون ذلك على قدم المساواة مع زعيط ومعيط ممن حضر من الهند والسند وبلاد تركب الافيال! كل واحد سيارة «جياد»؟ هل جنّت الانقاذ فأصبحت لا تعرف مقامات الكتاب؟ أين ذهبت المقامات اذن؟ والله انه لتذهب الانقاذ بقضها وقضيضها ولا تذهب المقامات. وانا اعرف لنفسى قدرها فلا أقبل من الرشا الا ما ينزلها منزلتها، ويوافق آفاقها، ويميزها عن غيرها من عامة المرتشين. ومن باب التنوير لمن يهمه الامر، وبغرض درء مثل هذه التخاليط فى المستقبل، فإننى اعلن من خلال منبرى هذا، بغير لبس او ابهام، بأن على من يفكر فى تدجينى وارتهان قلمى ان يكون مستعدا بواحدة من ثلاث: ( لكزس) من سلالة الساموراى، او ( فولفو) من عذارى اسكندنافيا؛ او (بى ام دبليو) من عترة هتلر واهل بيته من صفوة أعراق التكنولوجيا الآرية. أما (جياد) فلا ثم لا! وبرغم ان الله سبحانه وتعالى فتح على فتحا جزئيا، ومكننى فى مراحل لاحقة من اقتناء وقيادة السيارات، فإنه وضع لى ضوابط معينة لا اتجاوزها وبالتالى اصبح مجال حركتى فى هذا المضمار محدودا بحدود مواردى المالية التى قررها لى. ولكننى تحايلت على تلك الضوابط تحايل المضطر لركوب كل وسيلة ممكنة لارضاء رغباته فى التعرف على جميع انواع السيارات وتجربتها والاستمتاع بقيادتها. وفى الولاياتالمتحدة آلاف الوكالات المتخصصة فى بيع السيارت، ومن الممارسات المعتادة لدى هذه الوكالات انهم يتيحون للراغبين فى الشراء اختيار بعض السيارات الجديدة الفارهة المعروضة وقيادتها والاحتفاظ بها لبضع ساعات بغرض التعرف على السيارة ومزاياها واتخاذ قرار الشراء من عدمه بناء على ذلك. ولذا فإننى فى اوقات فراغى كثيرا ما اتوقف امام اى من هذه الوكالات عند ظهور دعايات موديلات جديدة من السيارت واطلب من وكلاء البيع تجربة واحدة منها، وهكذا فإنك ترانى بين الفينة والاخرى مبرطعاً فى شوارع مدينة منيابوليس مستمتعا بقيادة احدث انواع ال (ساب) الفرنسية وال ( آودى) الالمانية وال ( فيرارى) الايطالية. وكانت آخر سيارة اخذتها من احد الوكلاء وسرحت بها فى شوارع المدينة هى سيارة ( مازدا سكس)، ولكننى فى هذه المرة لم اكن ممارسا لهوايتى المجردة، بل اننى استعرت السيارة بنية شرائها فعلا بعد ان قرأت تقريرا منصفا عنها فى احدى مجلات رعاية المستهلكين الامريكية المتخصصة تصفها بأنها من اصلح السيارت لاهل الطبقة المتوسطة. وسيارة مازدا من افضل ما انتجت التكنولوجيا اليابانية ولها مكانة طيبة فى جميع انحاء العالم، باستثناء السودان. فقد بغى السودانيون على المازدا ظلما وعدوانا ولطخوا شرفها ومسحوا بها الارض، وما زالوا يقذفون فى عرض المازدا ويلصقون بها المزاعم الكاذبة حتى اطلقوا عليها بغير وجه حق ( مازدا الفاسدة / حديدة كاسدة )، وتغنت الحسان: ( ما بركب المازدا ). ولكن عهدى بالاقامة فى السودان قد طال، وربما راجع اهل السودان انفسهم فى امر المازدا خلال سنوات غيبتى واعادوا لها كرامتها وردوا عليها ريشها. وان فعلوا لكانوا من المُحسنين، ذلك ان قذف السيارات العفيفة بدون بينة، مثل قذف المحصنات الطاهرات، عواقبه وخيمة.