توجيه عاجل من"البرهان" لسلطة الطيران المدني    جبريل إبراهيم: لا يمكن أن تحتل داري وتقول لي لا تحارب    حركة المستقبل للإصلاح والتنمية: تصريح صحفي    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    برقو الرجل الصالح    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يتفقد عمليات تأهيل مطار عطبرة ويوجه بافتتاحه خلال العام    مسؤول بالغرفة التجارية يطالب رجال الأعمال بالتوقف عن طلب الدولار    هيومن رايتس ووتش: الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها ارتكبت جرائم ضد الإنسانية وتطهيراً عرقياً ضد المساليت.. وتحمل حميدتي وشقيقه عبد الرحيم وجمعة المسؤولية    لماذا لم يتدخل الVAR لحسم الهدف الجدلي لبايرن ميونخ؟    مصر تكشف أعداد مصابي غزة الذين استقبلتهم منذ 7 أكتوبر    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    مقتل رجل أعمال إسرائيلي في مصر.. معلومات جديدة وتعليق كندي    النفط يتراجع مع ارتفاع المخزونات الأميركية وتوقعات العرض الحذرة    توخيل: غدروا بالبايرن.. والحكم الكارثي اعتذر    النموذج الصيني    تكريم مدير الجمارك السابق بالقضارف – صورة    غير صالح للاستهلاك الآدمي : زيوت طعام معاد استخدامها في مصر.. والداخلية توضح    مكي المغربي: أفهم يا إبن الجزيرة العاق!    موريانيا خطوة مهمة في الطريق إلى المونديال،،    ضمن معسكره الاعدادي بالاسماعيلية..المريخ يكسب البلدية وفايد ودياً    الطالباب.. رباك سلام...القرية دفعت ثمن حادثة لم تكن طرفاً فيها..!    بأشد عبارات الإدانة !    ثنائية البديل خوسيلو تحرق بايرن ميونيخ وتعبر بريال مدريد لنهائي الأبطال    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل مصري حضره المئات.. شباب مصريون يرددون أغنية الفنان السوداني الراحل خوجلي عثمان والجمهور السوداني يشيد: (كلنا نتفق انكم غنيتوها بطريقة حلوة)    شاهد بالفيديو.. القيادية في الحرية والتغيير حنان حسن: (حصلت لي حاجات سمحة..أولاد قابلوني في أحد شوارع القاهرة وصوروني من وراء.. وانا قلت ليهم تعالوا صوروني من قدام عشان تحسوا بالانجاز)    شاهد بالصورة.. شاعر سوداني شاب يضع نفسه في "سيلفي" مع المذيعة الحسناء ريان الظاهر باستخدام "الفوتشوب" ويعرض نفسه لسخرية الجمهور    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    الجنيه يخسر 18% في أسبوع ويخنق حياة السودانيين المأزومة    إسرائيل: عملياتنا في رفح لا تخالف معاهدة السلام مع مصر    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    الولايات المتحدة تختبر الذكاء الاصطناعي في مقابلات اللاجئين    الخليفي يهاجم صحفيا بسبب إنريكي    كل ما تريد معرفته عن أول اتفاقية سلام بين العرب وإسرائيل.. كامب ديفيد    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سباحة حرة فى نهر عطبرة (6 – 10) ... بقلم: مصطفى عبد العزيز البطل
نشر في سودانيل يوم 21 - 10 - 2009

سباحة حرة فى نهر عطبرة (6 – 10)
[email protected]
(1)
صرفتنى صوارف الحياة عن مباشرة رغبتى القديمة المتجددة فى الوقوف المتأنى على المصادر العلمية التى تتناول بالتعليل والتحليل منشأ اهتمامات الافراد لدى بزوغ المؤشرات الاولى لقدراتهم المعرفية فى مراحل حيواتهم الباكرة. ولذا فاننى لا اعرف على وجه التحقيق أسبابا بعينها تفسر طبيعة اهتماماتى عند بدايات تنامى الوعى لدىَّ فى المرحلة الدراسية المتوسطة، وهى فى جملتها مما يخالف اهتمامات الصبيان فى ذلك المدى العمرى. اهتم اقرانى – مثلا – بالرياضة والفرق الرياضية، فهم بين مشجع للهلال ومشجع للمريخ، يستظهرون عن ظهر قلب اسماء اللاعبين ومراكزهم داخل الملاعب، ويلهجون فى فورات حماس منقطع النظير عن المباريات ومجرياتها ونتائجها. وكنت أنا، بطبيعة الحال، اعرف أسماء الأعلام من اللاعبين الذين قد يرقى الجهل بهم مرقى الجهالة المطلقة ونقصان العقل، تماما مثل الجهل بسورة الفاتحة. فقد قرر بعض الفقهاء أن (الفاتحة ميزان العقل)، يريدون ان قياس العقل يبدأ بسورة الفاتحة من القرآن الكريم، فمن عجز عن حفظ سورة الفاتحة وتلاوتها – ولم يكن صاحب إعاقة – قامت الشبهة على نقصان عقله. ولكن عقلى الرياضى كان على شئ من العافية فقد كنت أعرف أسماءً مثل جكسا، واعرف انه نجم الهلال، وماجد واعرف انه نجم المريخ، ولكن لا شئ بعد ذلك.
فى مقابل ولع الآخرين بالرياضة كان لى - وانا اغادر مروج الطفولة الى مرابع الصبا الباكر- ولع عجيب بالسيارات. فكنت احفظ عن ظهر قلب جميع أنواع السيارات وطرازاتها وماركاتها وخصائصها وطبيعة محركاتها والبلدان التى تصنع فيها على مستوى العالم. كما كنت احتفظ بكثير من المجلات والمطبوعات التى توفر ذلك الصنف من المواد. ويخيل الى – والله تعالى اعلم – ان ما كنت اجمعه واحتفظ به ضمن اوراقى من معلومات كان يفوق ما يعرفه كثير من الكبار ممن امتلكوا تلك السيارات فعلا وتهادوا بها فى طرقات عطبرة.
وقد لا يصدقنى أحد اذا زعمت بأننى على اكمل استعداد فى يومى هذا، وبعد كل هذه العقود والحقب المتتالية، لأن ابسط امامك – اعزك الله – وبدقة لا تشوبها شائبة بيانات دقيقة ومحددة عن نوع ولون ومنشأ السيارات الخاصة التى كان يقودها اى واحد من كبار موظفى السكة الحديد او الاطباء او التجار فى المدينة عهدذاك، فضلا عن تلك المركبات الحكومية التى كان يستخدمها كبار المسئولين. اسألنى عن عاشور، تاجر الجلود الأشهر فى سوق عطبرة فاقول لك ان سيارته الفخيمة اللامعة التى تسلب الالباب كانت المانية الصنع وماركتها ( تاونس) ولونها اصفر. وغالبية السيارات الالمانية فى عطبرة كانت اما (تاونس) او (اوبل) او (فلوكسواغن)، والاخيرة كان منها نوعان، الاولى وهى صغيرة الحجم وتسمى محليا باسم ( القعونجة)، او (بيتل) ومعناها باللغة الانجليزية: خنفساء (سيرد ذكر هذه القعونجة او الخنفساء فى حلقة قادمة عندما اتطرق الى لقائى بالخرطوم فى تلك السن الباكرة، بصحبة خالى الصحافى المرحوم فؤاد عباس، بالزعيم الشيوعى عبد الخالق محجوب، فقد رأيت الرمز الشيوعى الاسطورى بعد اللقاء يتجه الى سيارة فلوكسواغن قعونجة ويقودها، وقد ظللت بعدها ولوقت طويل اتعجب لذلك الامر اذ بدا لى ان من هم فى شهرة الرجل ونفوذه السياسى اولى بقيادة سيارات ذات مستوى افضل، فعبدالخالق لا يقل بأى حال عن تاجر الجلود عاشور صاحب التاونس الفخيمة). ومهما يكن فان هذا النوع من سيارات البيتل ما زال يملأ مدن العالم محتفظا بمعالمه الاساسية دون تغيير يذكر، اما الثانية فهى كبيرة الحجم وتستخدم كبصات لنقل الركاب، وكانت تسعة اعشار بصات المدينة من ذلك النوع، وحمولتها عشرة ركاب ثمانية، يجلسون فى صفين متقابلين واثنان الى جوار السائق.
واسألنى – أعزك الله - عن اول سيارة مرسيدس دخلت عطبرة فأقول لك على الفور انها سيارة المرسيدس الزرقاء التى احضرها فى بداية السبعينات كبير المهندسين الميكانيكيين بمصلحة السكة الحديد عبد العزيز قاسم راسخ. وقد دأبت على التوقف بدراجتى، غدوا ورواحا، امام المرآب الخاص بمصلحة الهندسة الميكانيكية لأتأمل وأمتع ناظرى بمرأى تلك المحبوبة الاولى (نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى/ ما الحب الا للحبيب الاول). وعندما ظهر فيلم ايف مونتان الشهير ( زد )، الذى احتفى به اليسار فى العالم كله، وتم عرضه بدار سينما عطبرة الوطنية لمدة اربعة ايام متتالية (بناء على رغبة الجماهير)، لاحظت فى اول ليالى العرض ان احد شخصيات الفيلم يقود سيارة مرسيدس من موديل متقدم لم يكن قد ظهر فى السودان بعد، وقد حرصت على الدخول لمشاهدة نفس الفيلم فى الايام الثلاث اللاحقة لتكرار مشاهدة تلك السيارة وانعام النظر فيها.
اسألنى فاقول لك الاسماء واحدا واحدا، وسيارات المدينة وماركاتها واحدة واحدة: (كونسول) و(كورتينا) و(زيفير فور) و(هلمان ستين) و(فوكسهول) و(همبر) و(هنتر) البريطانية، و(ميركرى) و(فورد ثندربيرد) الامريكيتين، و(بيجو) الفرنسية، و(فيات) الايطالية. واكاد – لو شئت - ان اذكر لك بالتحديد التاريخ الذى بدأت فيه السيارت الروسية الصنع تدخل الى عطبرة للمرة الاولى، وكانت تلك سيارات جميلة ورائعة، قبل ان تتدهور صناعة السيارات الروسية وتتقهقر وتنتهى الى ما انتهت اليه من سيارات (لادا) سيئة السمعة، التى استوردتها فى زمن مضى بكميات كبيرة نقابة الاطباء وفرقتها على بعض اعضائها، ولكن اغانى البنات حكمت على تلك السيارة الروسية بأنها سيارة الاطباء الفاشلين ( عربية اللادا / دكتور لا عيادة لا شهادة ). جاءت الى عطبرة السيارة الروسية الصغيرة واسمها (موسكوفيتش)، ثم الكبيرة ويطلق عليها (فولقا). سيارتى فولقا فقط وجدتا طريقهما الى المدينة، واحدة يملكها محمد الحسن عثمان عبيد الله، الموظف القيادى بمصلحة الحسابات والذى تولى لاحقا منصب مدير عام السكة الحديد، وقد اقتناها من "الشركة" بالخرطوم جديدة "لنج". والثانية كانت سيارة تاكسى اظن انه جئ بها مستعملة من مدينة اخرى. وكنت بالطبع، وكما أسلفت، احتفظ بصحف ومجلات ومطبوعات لا حصر لها تحمل معلومات دعائية واسعة عن السيارات وانواعها وطبيعة محركاتها ومزاياها ووكلاء بيعها، ليس فى السودان وحسب، بل وعلى نطاق الدول العربية ايضا. فاذا اردت انت تعرف من هو وكيل سيارات فورد فى الكويت مثلاً، فالاجابة عندى حاضرة: انه يعقوب صالح البهبهانى، والمصدر هو مجلة (العربى) الشهرية.
(2)
اكثر ما نغص على حياتى اننى لم اجد صديقا او زميلا واحدا فى مرحلتى الدراسية تلك يشاركنى ذلك النوع العجيب من الاهتمام، بل ان كل من عرف ذلك عنى من لداتى كان يصفنى باوصاف تسخر مني ومن هوايتي العجيبة تلك. كما ابدى والدى انزعاجا شديدا من تعلقى الغريب بالسيارات وبذل جهده لتسخيف هذا الهيام وتوجيهى للاهتمام بمواد الدراسة. وكاد هذا الأمر ان يسبب لى عقدة نفسية مستحكمة، اذ شُبه لى ان حالتى تشكل ظاهرة مرضية. لولا اننى عرفت فى مرحلة لاحقة من عمرى ان عالم السيارت عالم مفتوح مثله مثل العوالم الاخرى وان هناك كثيرين فى نطاق الكون العريض يجدون فى متابعته هواية ممتعة ومنتجة، وأن المقتدرون – عالميا- من اصحاب هذا النوع من الاهتمام يبتنون جراجات واسعة للاحتفاظ بالسيارات التى يقتنونها، مثل الامير الوليد بن طلال الذى يمتلك اجمل اسطول للسيارات الخاصة، كما يحتكم على افضل اسطبل للخيول الاصيلة فى العالم. والغريب ان واحدا من عشاق السيارات هؤلاء كان ليونيد بريجينيف رئيس مجلس السوفيت الاعلى (بالاتحاد السوفيتى السابق). وبرغم تعاطفى معه، كوننا تشاركنا ذات الاهتمام والهواية، فاننى لم افهم قط كيف ان شيوعيا فى موقع قيادى مثله يمكن ان يبذل امواله لاقتناء السيارات والاستمتاع بها، خاصة اذا علمنا ان اغلب السيارات التى امتلأ بها مرآبه الخاص كانت مصنوعة فى غرب اوربا والولايات المتحدة وفقا للصور والمعلومات التى بين يدى. وكنت قد قرأت فى صحيفة ( السودان الجديد)، التى ترأس تحريرها فضل بشير، مادة جاء فيها ان السيد الصادق المهدى مغرم بالسيارات، وانه يقود سياراته بنفسه فى شارع النيل ليلا بغرض التأمل والمتعة. وقد قمت من فورى بقطع تلك المادة واضفتها الى اوراقى. وفى مرحلة لاحقة من عمرى حين عملت الى جانب حفيد المهدى اثناء رئاسته للوزارة لاحظت انه كان فى ساعات الليل يصرف فرق الحراسة الشخصية الرسمية والحزبية، ثم يختار سيارة بعينها قدمتها له جهة خارجية كهدية شخصية، ولكنه ضمها الى الاسطول الحكومى، ويقودها بنفسه فى شوارع الخرطوم. وقد خطر لى ان المهدى ربما كان من اولئك الذين توافيهم الاشراقات وتتنزل عليهم الالهامات اثناء قيادتهم للسيارات. ومن الحقائق الثابتة ان الكثير من البشر يحسنون التأمل وتتهادى اليهم اعظم الافكار اثناء وجودهم خلف المقود.
ولأن علمى بالسيارات كان قد بلغ شأوا بعيدا، او هكذا خيل لى، فقد شعرت بجرح غائر فى كبريائى عندما اوقفت سيارة اجرة ذات يوم من ايام العام الماضى فى مدينة القاهرة وجلست بجوار السائق ثم حاولت، كما هى عادتى، ان اتعرف على نوع السيارة من خلال النظر الى جزئياتها من الداخل. وكل السيارات فى الدنيا لها علامات وايحاءات معينة تعرف منها نوع السيارة دون ان تكون قد قرأت ما هو مكتوب على السطح الخارجى بالاحرف اللاتيينية، ولكن الامر استغلق على استغلاقا. وعندما شعرت بالخيبة اضطررت لسؤال السائق المصرى عن نوع السيارة وطرازها فأجابنى على الفور: ( العربية دى شاهين يا بيه ). قلت له: ( شاهين مين؟ انا اسألك عن ماركة السيارة)، فرد السائق: ( ايوة يا بيه، ما هى العربية دى ماركتها شاهين). يا للهول. هل هناك فى الدنيا عربة اسمها شاهين؟ ولكن السائق اكد لى ان هذا هو الاسم الصحيح، وان السيارة مصنوعة فى تركيا. وزاد الجرح الغائر فى كبريائى عندما أتانى فى المساء الصديق الشاب اللامع فى سموات المحروسة، عمار فتح الرحمن شيلا، سكرتير تحرير مجلة (الملتقى) ومراسل صحيفة (الاحداث) بالقاهرة ليأخذنى الى مكان ما، وما ان دخلت الى سيارته ذات المقاعد الجلدية الوثيرة حتى شرعت فى ممارسة ذات الهواية محاولا معرفة ماركة السيارة بالنظر الى تفصيلاتها الداخلية ولكن بغير جدوى. اخبرنى عمار بعد ذلك ان سيارته صينية الصنع وذكر اسماً لها استعصى علىَّ حفظه، فاندهشت مرة اخرى. الصين تصنع سيارات؟ منذ متى؟ لم اسمع قط عبر حياتى كلها عن سيارة صينية. واقتنعت اخيرا ان السيارات اللئيمة، ذات الارجل المطاطية الاربعة، قد تجاوزتنى الى آفاق جديدة وتركتنى وراءها محسورا، واننى لم اعد ذلك الخبير الدولى الذى يعلم دبيب النمل فى مجالات صناعتها وخصائصها، لا سيما بعد ظهور السيارات الكهربائية، والسيارات التى تسير بالكحول، والهايبرد كارز، والسيارات الصديقة للبيئة التى لا تزيد من انبعاث الغازات، ثم الردة الامريكية بانتاج سيارة (همر) التى تشبه الدبابات المستخدمة فى الحروب. وقد تبرع عمار بعد ذلك مشكورا فزودنى بمعلومات تفصيلية عن السيارات المنتشرة فى طول القاهرة وعرضها، حيث لفت انتباهى الى العدد الكبير من السيارات الايرانية والتركية والاسبانية والصينية التى تتمخطر من حولى جيئة وذهابا باسماء ماركات وطرازات ما انزل الله بها من سلطان.
ثم أننى تذكرت ان السودان نفسه اصبح يصنع، او بالاحرى يقوم بتجميع السيارات، فأصبحت السيارات "خشم بيوت". فعند زيارتى الاخيرة لاحظت الاعداد الوفيرة من السيارات الكورية المجمعة فى السودان تحت اسم ( جياد ). وهى سيارات لا بأس بها ابدا. وقد وضعت سيارة جياد السودان فى موقع متقدم على مصر ذات الهيل والهيلمان والسابقة التاريخية فى مجال الصناعة التجميعية للسيارات، اذ ان مصر افترعت هذا الطريق فى بواكير الستينات حين انتجت سيارات (نصر) بالتعاون مع (فيات) الايطالية، كما انتجت سيارة مصرية خالصة باسم (رمسيس)، الا ان تجربة انتاج "رمسيس" هذه فشلت فشلا ذريعا اذ كان عادم السيارة (او "الشُكمان" بالعامية المصرية) يصدر اصواتا مرعبة عند انطلاقها لكأنها اسرافيل ينفخ فى الصور يوم القيامة. وقد انتهت تجربة صناعة السيارات المصرية الى ما انتهت اليه روسيا من خيبة وبوار، واكاد اظن ان مصر قد توقفت عن انتاج السيارات كليا. ولكن الخبر اليقين عند عمار.
ومع ان نجاح تجربة السودان فى انتاج سيارة يعتبر خطوة موفقة لحد كبير، وان اسم السيارة السودانية "جياد" اسم جميل يبعث على التفاؤل، فقد شعرت بنوع من الغضب والغبن معاً حين اشاع بعض مناضلى الكيبورد، ممن اثار حنقهم مشاركة بعض الكتاب الصحافيين المقيمين بالخارج فى مؤتمر الحوار الاعلامى بالخرطوم فى مايو الماضى، أشاعوا ان العصبة المنقذة قدمت انواعا من الرشاوى لهؤلاء الكتاب، منها انها منحت كل من حضر الى المؤتمر منهم سيارة ( جياد ). لم يغضبنى الاتهام بالرشوة فى حد ذاته، بقدر ما حز فى نفسى نوع السيارة التى وقع عليها الاختيار. يا لهؤلاء المخابيل. لا يعرفون قدرى. أنا ارتشى فى آخر عمرى بسيارة "جياد"؟ والله لا يكون ذلك الا فى الزمن الردئ! ولم يعجبنى فى اشاعة السيارة ايضا انها جمعت كل الكتاب الصحافيين تحت مظلة رشوة موحدة. وهو زعم لا يوافق العقل ولا يوافى المنطق. لماذ؟ لان الكتّاب مقامات. هل يعقل ان تتم رشوتى انا، مصطفى عبد العزيز البطل على سن ورمح، بسيارة جياد، ويكون ذلك على قدم المساواة مع زعيط ومعيط ممن حضر من الهند والسند وبلاد تركب الافيال! كل واحد سيارة ”جياد"؟ هل جنّت الانقاذ فأصبحت لا تعرف مقامات الكتاب؟ أين ذهبت المقامات اذن؟ والله انه لتذهب الانقاذ بقضها وقضيضها ولا تذهب المقامات. وانا اعرف لنفسى قدرها فلا أقبل من الرشا الا ما ينزلها منزلتها، ويوافق آفاقها، ويميزها عن غيرها من عامة المرتشين. ومن باب التنوير لمن يهمه الامر، وبغرض درء مثل هذه التخاليط فى المستقبل، فاننى اعلن من خلال منبرى هذا، بغير لبس او ابهام، بأن على من يفكر فى تدجينى وارتهان قلمى ان يكون مستعدا بواحدة من ثلاث: ( لكزس) من سلالة الساموراى، او ( فولفو) من عذارى اسكندنافيا؛ او (بى ام دبليو) من عترة هتلر واهل بيته من صفوة أعراق التكنولوجيا الآرية. أما (جياد) فلا ثم لا!
(3)
وبرغم ان الله سبحانه وتعالى فتح على فتحا جزئيا، ومكننى فى مراحل لاحقة من اقتناء وقيادة السيارات، فانه وضع لى ضوابط معينة لا اتجاوزها وبالتالى اصبح مجال حركتى فى هذا المضمار محدودا بحدود مواردى المالية التى قررها لى. ولكننى تحايلت على تلك الضوابط تحايل المضطر لركوب كل وسيلة ممكنة لارضاء رغباته فى التعرف على جميع انواع السيارات وتجربتها والاستمتاع بقيادتها. وفى الولايات المتحدة آلاف الوكالات المتخصصة فى بيع السيارت، ومن الممارسات المعتادة لدى هذه الوكالات انهم يتيحون للراغبين فى الشراء اختيار بعض السيارات الجديدة الفارهة المعروضة وقيادتها والاحتفاظ بها لبضعة ساعات بغرض التعرف على السيارة ومزاياها واتخاذ قرار الشراء من عدمه بناء على ذلك. ولذا فاننى فى اوقات فراغى كثيرا ما اتوقف امام اى من هذه الوكالات عند ظهور دعايات موديلات جديدة من السيارت واطلب من وكلاء البيع تجربة واحدة منها، وهكذا فانك ترانى بين الفينة والاخرى مبرطعاً فى شوارع مدينة منيابوليس مستمتعا بقيادة احدث انواع ال (ساب) الفرنسية وال ( آودى) الالمانية وال ( فيرارى) الايطالية.
كانت آخر سيارة اخذتها من احد الوكلاء وسرحت بها فى شوارع المدينة هى سيارة ( مازدا سكس)، ولكننى فى هذه المرة لم اكن ممارسا لهوايتى المجردة، بل اننى استعرت السيارة بنية شرائها فعلا بعد ان قرأت تقريرا منصفا عنها فى احدى مجلات رعاية المستهلكين الامريكية المتخصصة تصفها بانها من اصلح السيارت لاهل الطبقة المتوسطة. وسيارة مازدا من افضل ما انتجت التكنولوجيا اليابانية ولها مكانة طيبة فى جميع انحاء العالم، باستثناء السودان. فقد بغى السودانيون على المازدا ظلما وعدوانا ولطخوا شرفها ومسحوا بها الارض، وما زالوا يقذفون فى عرض المازدا ويلصقون بها المزاعم الكاذبة حتى اطلقوا عليها بغير وجه حق ( مازدا الفاسدة / حديدة كاسدة )، وتغنت الحسان: ( ما بركب المازدا ). ولكن عهدى بالاقامة فى السودان قد طال، وربما راجع اهل السودان انفسهم فى امر المازدا خلال سنوات غيبتى واعادوا لها كرامتها وردوا عليها ريشها. وان فعلوا لكانوا من المُحسنين، ذلك ان قذف السيارات العفيفة بدون بينة، مثل قذف المحصنات الطاهرات، عواقبه وخيمة.
دارفور وحكومة الانتفاضة
كتبت ضمن مقال الاسبوع الماضى عبارة اتضح لى لاحقا انها تفتقر الى الدقة، فكان لا بد من عودة تقويمية. كتبت:( وقد راعى قادة الانتفاضة الرجبية مبادئ المحاصصة القبلية والجغرافية الى حد كبير عند تشكيل مؤسسات الحكم الانتقالى فى العام 1985). تعقيبا على هذه العبارة كاتبنى الدكتور بخيت خاطر خميس من المملكة المتحدة مؤكدا انه لا المجلس العسكرى الانتقالى الذى ترأسه المشير عبد الرحمن سوار الدهب، ولا مجلس الوزراء الانتقالى لحكومة الانتفاضة الذى ترأسه الدكتور الجزولى دفع الله اشتمل على عضو واحد من منطقة دارفور. وقد قمت من فورى باحالة رسالة الاخ الكريم الى الاستاذ ابراهيم طه ايوب، وزير خارجية حكومة الانتفاضة الذى وافانى بردٍ مستفيض أمّن فيه على افادة الدكتور بخيت خاطر خميس، بيد انه اشار الى عدد من النقاط الهامة فى صدد التوضيح والقاء الضوء على هذا الامر.
من ابرز هذه النقاط: ان معايير واجراءات الاختيار لمؤسسات الحكم الانتقالى كانت مفتوحة وعلى درجة عالية من الشفافية، فبالنسبة لعضوية المجلس العسكرى الانتقالى جاء الاختيار، وفقا لاعتبارت عسكرية مجردة، فكانت العضوية قصرا على قادة الوحدات العسكرية بالعاصمة بالاضافة الى قائد سلاح البحرية ببورتسودان، وقد شاءت عوامل المصادفة البحتة الا يكون ايا من هؤلاء القادة من منطقة دارفور. أما مجلس الوزراء الانتقالى فقد قامت النقابات المهنية بالدور الاساسى فى اختيار اعضائه، حيث قامت كل نقابة باختيار ممثل لشغل منصب معين، وذلك باستثناء وزيرى الدفاع والداخلية اللذان اختارتهما القوات النظامية، بالاضافة الى وزير التربية والتعليم (ممثل الاخوان المسلمين). وعليه فإن التساؤل الاقرب الى المنطق هنا ليس هو: لماذا لم يكن هناك ممثلين لدارفور فى المجلسين، بل لماذا لم يكن هناك دارفوريون فى قيادة وحدات القوات المسلحة، ولماذا لم يكن هناك دارفوريون فى قيادة الحركة النقابية؟! بيد ان النقطة الاكثر اهمية فى هذا الصدد، وفقا للاستاذ ابراهيم طه ايوب، هى ان المفاهيم القبلية والجهوية لم تكن - حتى ذلك العهد – قد استشرت وسادت بحيث تتخذ بين السودانيين معيارا لاختيار القيادات السيادية والتنفيذية. وان القبلية والجهوية لم تسفر بوجهها الكالح القبيح الا فى المرحلة الزمنية التى تلت انقلاب 1989.
نصوص خارج السياق
اننى ضد ان يحمل المناضل اسم جيفارا او سيمون بوليفار على شبكة الانترنت، ويشتم الحكومة ويهددها بالويل والثبور، ثم يفارق حاسوبه ويحمل اسم محمد احمد ويذهب الى عمله فى تلك الدائرة الحكومية او الخاصة حيث يكون الشعب فى آخر سلم الاولويات. اننى ضد ان يبث مناضلو الكيبورد اشعار احمد مطر من مهاجرهم الدافئة لتحريض الشعب على الكفاح والثورة والموت فى سبيل القضية، ثم يغلقون كمبيوتراتهم ويذهبون للحصول على احتياجاتهم من محلات سيفواى او سينسبرى او شامبيون او وولويرث. اننى ضد ان يحول البعض هجرتهم او اغترابهم من اجل حياة افضل الى موقف سياسى وثورى ونضالى. هناك البعض ممن خرجوا من السودان فى الستينات او السبعينات او الثمانينات، ثم ركبوا قطار المعارضة حين جاءتهم فى مكانهم، ومن مهاجرين ومغتربين غيروا صفتهم الى " منفيين ". وقد روى عن صديق عابث انه وصف خروج المعارضة بعملها الى الخارج بأنه " جاء مع بعض الناس فى السلك".
(محمد عثمان ابراهيم ردا على الفنان التشكيلى والناقد د. حسن موسى فى موقع " السودان للجميع")
عن صحيفة ( الأحداث )
مقالات سابقة:
http://sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoname=%E3%D5%D8%DD%EC%20%DA%C8%CF%C7%E1%DA%D2%ED%D2%20%C7%E1%C8%D8%E1&sacdoid=mustafa.batal


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.