لجان مقاومة النهود : مليشيا الدعم السريع استباحت المدينة وارتكبت جرائم قتل بدم بارد بحق مواطنين    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    جامعة ابن سينا تصدم الطلاب.. جامعات السوق الأسود والسمسرة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    بحضور عقار.. رئيس مجلس السيادة يعتمد نتيجة امتحانات الشهادة السودانية للدفعة المؤجلة للعام 2023م    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    احتجز معتقلين في حاويات.. تقرير أممي يدين "انتهاكات مروعة" للجيش السوداني    هجوم المليشيا علي النهود هدفه نهب وسرقة خيرات هذه المنطقة الغنية    عبد العاطي يؤكد على دعم مصر الكامل لأمن واستقرار ووحدة السودان وسلامة أراضيه    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سباحة حرة فى نهر عطبرة (6 – 10) ... بقلم: مصطفى عبد العزيز البطل
نشر في سودانيل يوم 21 - 10 - 2009

سباحة حرة فى نهر عطبرة (6 – 10)
[email protected]
(1)
صرفتنى صوارف الحياة عن مباشرة رغبتى القديمة المتجددة فى الوقوف المتأنى على المصادر العلمية التى تتناول بالتعليل والتحليل منشأ اهتمامات الافراد لدى بزوغ المؤشرات الاولى لقدراتهم المعرفية فى مراحل حيواتهم الباكرة. ولذا فاننى لا اعرف على وجه التحقيق أسبابا بعينها تفسر طبيعة اهتماماتى عند بدايات تنامى الوعى لدىَّ فى المرحلة الدراسية المتوسطة، وهى فى جملتها مما يخالف اهتمامات الصبيان فى ذلك المدى العمرى. اهتم اقرانى – مثلا – بالرياضة والفرق الرياضية، فهم بين مشجع للهلال ومشجع للمريخ، يستظهرون عن ظهر قلب اسماء اللاعبين ومراكزهم داخل الملاعب، ويلهجون فى فورات حماس منقطع النظير عن المباريات ومجرياتها ونتائجها. وكنت أنا، بطبيعة الحال، اعرف أسماء الأعلام من اللاعبين الذين قد يرقى الجهل بهم مرقى الجهالة المطلقة ونقصان العقل، تماما مثل الجهل بسورة الفاتحة. فقد قرر بعض الفقهاء أن (الفاتحة ميزان العقل)، يريدون ان قياس العقل يبدأ بسورة الفاتحة من القرآن الكريم، فمن عجز عن حفظ سورة الفاتحة وتلاوتها – ولم يكن صاحب إعاقة – قامت الشبهة على نقصان عقله. ولكن عقلى الرياضى كان على شئ من العافية فقد كنت أعرف أسماءً مثل جكسا، واعرف انه نجم الهلال، وماجد واعرف انه نجم المريخ، ولكن لا شئ بعد ذلك.
فى مقابل ولع الآخرين بالرياضة كان لى - وانا اغادر مروج الطفولة الى مرابع الصبا الباكر- ولع عجيب بالسيارات. فكنت احفظ عن ظهر قلب جميع أنواع السيارات وطرازاتها وماركاتها وخصائصها وطبيعة محركاتها والبلدان التى تصنع فيها على مستوى العالم. كما كنت احتفظ بكثير من المجلات والمطبوعات التى توفر ذلك الصنف من المواد. ويخيل الى – والله تعالى اعلم – ان ما كنت اجمعه واحتفظ به ضمن اوراقى من معلومات كان يفوق ما يعرفه كثير من الكبار ممن امتلكوا تلك السيارات فعلا وتهادوا بها فى طرقات عطبرة.
وقد لا يصدقنى أحد اذا زعمت بأننى على اكمل استعداد فى يومى هذا، وبعد كل هذه العقود والحقب المتتالية، لأن ابسط امامك – اعزك الله – وبدقة لا تشوبها شائبة بيانات دقيقة ومحددة عن نوع ولون ومنشأ السيارات الخاصة التى كان يقودها اى واحد من كبار موظفى السكة الحديد او الاطباء او التجار فى المدينة عهدذاك، فضلا عن تلك المركبات الحكومية التى كان يستخدمها كبار المسئولين. اسألنى عن عاشور، تاجر الجلود الأشهر فى سوق عطبرة فاقول لك ان سيارته الفخيمة اللامعة التى تسلب الالباب كانت المانية الصنع وماركتها ( تاونس) ولونها اصفر. وغالبية السيارات الالمانية فى عطبرة كانت اما (تاونس) او (اوبل) او (فلوكسواغن)، والاخيرة كان منها نوعان، الاولى وهى صغيرة الحجم وتسمى محليا باسم ( القعونجة)، او (بيتل) ومعناها باللغة الانجليزية: خنفساء (سيرد ذكر هذه القعونجة او الخنفساء فى حلقة قادمة عندما اتطرق الى لقائى بالخرطوم فى تلك السن الباكرة، بصحبة خالى الصحافى المرحوم فؤاد عباس، بالزعيم الشيوعى عبد الخالق محجوب، فقد رأيت الرمز الشيوعى الاسطورى بعد اللقاء يتجه الى سيارة فلوكسواغن قعونجة ويقودها، وقد ظللت بعدها ولوقت طويل اتعجب لذلك الامر اذ بدا لى ان من هم فى شهرة الرجل ونفوذه السياسى اولى بقيادة سيارات ذات مستوى افضل، فعبدالخالق لا يقل بأى حال عن تاجر الجلود عاشور صاحب التاونس الفخيمة). ومهما يكن فان هذا النوع من سيارات البيتل ما زال يملأ مدن العالم محتفظا بمعالمه الاساسية دون تغيير يذكر، اما الثانية فهى كبيرة الحجم وتستخدم كبصات لنقل الركاب، وكانت تسعة اعشار بصات المدينة من ذلك النوع، وحمولتها عشرة ركاب ثمانية، يجلسون فى صفين متقابلين واثنان الى جوار السائق.
واسألنى – أعزك الله - عن اول سيارة مرسيدس دخلت عطبرة فأقول لك على الفور انها سيارة المرسيدس الزرقاء التى احضرها فى بداية السبعينات كبير المهندسين الميكانيكيين بمصلحة السكة الحديد عبد العزيز قاسم راسخ. وقد دأبت على التوقف بدراجتى، غدوا ورواحا، امام المرآب الخاص بمصلحة الهندسة الميكانيكية لأتأمل وأمتع ناظرى بمرأى تلك المحبوبة الاولى (نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى/ ما الحب الا للحبيب الاول). وعندما ظهر فيلم ايف مونتان الشهير ( زد )، الذى احتفى به اليسار فى العالم كله، وتم عرضه بدار سينما عطبرة الوطنية لمدة اربعة ايام متتالية (بناء على رغبة الجماهير)، لاحظت فى اول ليالى العرض ان احد شخصيات الفيلم يقود سيارة مرسيدس من موديل متقدم لم يكن قد ظهر فى السودان بعد، وقد حرصت على الدخول لمشاهدة نفس الفيلم فى الايام الثلاث اللاحقة لتكرار مشاهدة تلك السيارة وانعام النظر فيها.
اسألنى فاقول لك الاسماء واحدا واحدا، وسيارات المدينة وماركاتها واحدة واحدة: (كونسول) و(كورتينا) و(زيفير فور) و(هلمان ستين) و(فوكسهول) و(همبر) و(هنتر) البريطانية، و(ميركرى) و(فورد ثندربيرد) الامريكيتين، و(بيجو) الفرنسية، و(فيات) الايطالية. واكاد – لو شئت - ان اذكر لك بالتحديد التاريخ الذى بدأت فيه السيارت الروسية الصنع تدخل الى عطبرة للمرة الاولى، وكانت تلك سيارات جميلة ورائعة، قبل ان تتدهور صناعة السيارات الروسية وتتقهقر وتنتهى الى ما انتهت اليه من سيارات (لادا) سيئة السمعة، التى استوردتها فى زمن مضى بكميات كبيرة نقابة الاطباء وفرقتها على بعض اعضائها، ولكن اغانى البنات حكمت على تلك السيارة الروسية بأنها سيارة الاطباء الفاشلين ( عربية اللادا / دكتور لا عيادة لا شهادة ). جاءت الى عطبرة السيارة الروسية الصغيرة واسمها (موسكوفيتش)، ثم الكبيرة ويطلق عليها (فولقا). سيارتى فولقا فقط وجدتا طريقهما الى المدينة، واحدة يملكها محمد الحسن عثمان عبيد الله، الموظف القيادى بمصلحة الحسابات والذى تولى لاحقا منصب مدير عام السكة الحديد، وقد اقتناها من "الشركة" بالخرطوم جديدة "لنج". والثانية كانت سيارة تاكسى اظن انه جئ بها مستعملة من مدينة اخرى. وكنت بالطبع، وكما أسلفت، احتفظ بصحف ومجلات ومطبوعات لا حصر لها تحمل معلومات دعائية واسعة عن السيارات وانواعها وطبيعة محركاتها ومزاياها ووكلاء بيعها، ليس فى السودان وحسب، بل وعلى نطاق الدول العربية ايضا. فاذا اردت انت تعرف من هو وكيل سيارات فورد فى الكويت مثلاً، فالاجابة عندى حاضرة: انه يعقوب صالح البهبهانى، والمصدر هو مجلة (العربى) الشهرية.
(2)
اكثر ما نغص على حياتى اننى لم اجد صديقا او زميلا واحدا فى مرحلتى الدراسية تلك يشاركنى ذلك النوع العجيب من الاهتمام، بل ان كل من عرف ذلك عنى من لداتى كان يصفنى باوصاف تسخر مني ومن هوايتي العجيبة تلك. كما ابدى والدى انزعاجا شديدا من تعلقى الغريب بالسيارات وبذل جهده لتسخيف هذا الهيام وتوجيهى للاهتمام بمواد الدراسة. وكاد هذا الأمر ان يسبب لى عقدة نفسية مستحكمة، اذ شُبه لى ان حالتى تشكل ظاهرة مرضية. لولا اننى عرفت فى مرحلة لاحقة من عمرى ان عالم السيارت عالم مفتوح مثله مثل العوالم الاخرى وان هناك كثيرين فى نطاق الكون العريض يجدون فى متابعته هواية ممتعة ومنتجة، وأن المقتدرون – عالميا- من اصحاب هذا النوع من الاهتمام يبتنون جراجات واسعة للاحتفاظ بالسيارات التى يقتنونها، مثل الامير الوليد بن طلال الذى يمتلك اجمل اسطول للسيارات الخاصة، كما يحتكم على افضل اسطبل للخيول الاصيلة فى العالم. والغريب ان واحدا من عشاق السيارات هؤلاء كان ليونيد بريجينيف رئيس مجلس السوفيت الاعلى (بالاتحاد السوفيتى السابق). وبرغم تعاطفى معه، كوننا تشاركنا ذات الاهتمام والهواية، فاننى لم افهم قط كيف ان شيوعيا فى موقع قيادى مثله يمكن ان يبذل امواله لاقتناء السيارات والاستمتاع بها، خاصة اذا علمنا ان اغلب السيارات التى امتلأ بها مرآبه الخاص كانت مصنوعة فى غرب اوربا والولايات المتحدة وفقا للصور والمعلومات التى بين يدى. وكنت قد قرأت فى صحيفة ( السودان الجديد)، التى ترأس تحريرها فضل بشير، مادة جاء فيها ان السيد الصادق المهدى مغرم بالسيارات، وانه يقود سياراته بنفسه فى شارع النيل ليلا بغرض التأمل والمتعة. وقد قمت من فورى بقطع تلك المادة واضفتها الى اوراقى. وفى مرحلة لاحقة من عمرى حين عملت الى جانب حفيد المهدى اثناء رئاسته للوزارة لاحظت انه كان فى ساعات الليل يصرف فرق الحراسة الشخصية الرسمية والحزبية، ثم يختار سيارة بعينها قدمتها له جهة خارجية كهدية شخصية، ولكنه ضمها الى الاسطول الحكومى، ويقودها بنفسه فى شوارع الخرطوم. وقد خطر لى ان المهدى ربما كان من اولئك الذين توافيهم الاشراقات وتتنزل عليهم الالهامات اثناء قيادتهم للسيارات. ومن الحقائق الثابتة ان الكثير من البشر يحسنون التأمل وتتهادى اليهم اعظم الافكار اثناء وجودهم خلف المقود.
ولأن علمى بالسيارات كان قد بلغ شأوا بعيدا، او هكذا خيل لى، فقد شعرت بجرح غائر فى كبريائى عندما اوقفت سيارة اجرة ذات يوم من ايام العام الماضى فى مدينة القاهرة وجلست بجوار السائق ثم حاولت، كما هى عادتى، ان اتعرف على نوع السيارة من خلال النظر الى جزئياتها من الداخل. وكل السيارات فى الدنيا لها علامات وايحاءات معينة تعرف منها نوع السيارة دون ان تكون قد قرأت ما هو مكتوب على السطح الخارجى بالاحرف اللاتيينية، ولكن الامر استغلق على استغلاقا. وعندما شعرت بالخيبة اضطررت لسؤال السائق المصرى عن نوع السيارة وطرازها فأجابنى على الفور: ( العربية دى شاهين يا بيه ). قلت له: ( شاهين مين؟ انا اسألك عن ماركة السيارة)، فرد السائق: ( ايوة يا بيه، ما هى العربية دى ماركتها شاهين). يا للهول. هل هناك فى الدنيا عربة اسمها شاهين؟ ولكن السائق اكد لى ان هذا هو الاسم الصحيح، وان السيارة مصنوعة فى تركيا. وزاد الجرح الغائر فى كبريائى عندما أتانى فى المساء الصديق الشاب اللامع فى سموات المحروسة، عمار فتح الرحمن شيلا، سكرتير تحرير مجلة (الملتقى) ومراسل صحيفة (الاحداث) بالقاهرة ليأخذنى الى مكان ما، وما ان دخلت الى سيارته ذات المقاعد الجلدية الوثيرة حتى شرعت فى ممارسة ذات الهواية محاولا معرفة ماركة السيارة بالنظر الى تفصيلاتها الداخلية ولكن بغير جدوى. اخبرنى عمار بعد ذلك ان سيارته صينية الصنع وذكر اسماً لها استعصى علىَّ حفظه، فاندهشت مرة اخرى. الصين تصنع سيارات؟ منذ متى؟ لم اسمع قط عبر حياتى كلها عن سيارة صينية. واقتنعت اخيرا ان السيارات اللئيمة، ذات الارجل المطاطية الاربعة، قد تجاوزتنى الى آفاق جديدة وتركتنى وراءها محسورا، واننى لم اعد ذلك الخبير الدولى الذى يعلم دبيب النمل فى مجالات صناعتها وخصائصها، لا سيما بعد ظهور السيارات الكهربائية، والسيارات التى تسير بالكحول، والهايبرد كارز، والسيارات الصديقة للبيئة التى لا تزيد من انبعاث الغازات، ثم الردة الامريكية بانتاج سيارة (همر) التى تشبه الدبابات المستخدمة فى الحروب. وقد تبرع عمار بعد ذلك مشكورا فزودنى بمعلومات تفصيلية عن السيارات المنتشرة فى طول القاهرة وعرضها، حيث لفت انتباهى الى العدد الكبير من السيارات الايرانية والتركية والاسبانية والصينية التى تتمخطر من حولى جيئة وذهابا باسماء ماركات وطرازات ما انزل الله بها من سلطان.
ثم أننى تذكرت ان السودان نفسه اصبح يصنع، او بالاحرى يقوم بتجميع السيارات، فأصبحت السيارات "خشم بيوت". فعند زيارتى الاخيرة لاحظت الاعداد الوفيرة من السيارات الكورية المجمعة فى السودان تحت اسم ( جياد ). وهى سيارات لا بأس بها ابدا. وقد وضعت سيارة جياد السودان فى موقع متقدم على مصر ذات الهيل والهيلمان والسابقة التاريخية فى مجال الصناعة التجميعية للسيارات، اذ ان مصر افترعت هذا الطريق فى بواكير الستينات حين انتجت سيارات (نصر) بالتعاون مع (فيات) الايطالية، كما انتجت سيارة مصرية خالصة باسم (رمسيس)، الا ان تجربة انتاج "رمسيس" هذه فشلت فشلا ذريعا اذ كان عادم السيارة (او "الشُكمان" بالعامية المصرية) يصدر اصواتا مرعبة عند انطلاقها لكأنها اسرافيل ينفخ فى الصور يوم القيامة. وقد انتهت تجربة صناعة السيارات المصرية الى ما انتهت اليه روسيا من خيبة وبوار، واكاد اظن ان مصر قد توقفت عن انتاج السيارات كليا. ولكن الخبر اليقين عند عمار.
ومع ان نجاح تجربة السودان فى انتاج سيارة يعتبر خطوة موفقة لحد كبير، وان اسم السيارة السودانية "جياد" اسم جميل يبعث على التفاؤل، فقد شعرت بنوع من الغضب والغبن معاً حين اشاع بعض مناضلى الكيبورد، ممن اثار حنقهم مشاركة بعض الكتاب الصحافيين المقيمين بالخارج فى مؤتمر الحوار الاعلامى بالخرطوم فى مايو الماضى، أشاعوا ان العصبة المنقذة قدمت انواعا من الرشاوى لهؤلاء الكتاب، منها انها منحت كل من حضر الى المؤتمر منهم سيارة ( جياد ). لم يغضبنى الاتهام بالرشوة فى حد ذاته، بقدر ما حز فى نفسى نوع السيارة التى وقع عليها الاختيار. يا لهؤلاء المخابيل. لا يعرفون قدرى. أنا ارتشى فى آخر عمرى بسيارة "جياد"؟ والله لا يكون ذلك الا فى الزمن الردئ! ولم يعجبنى فى اشاعة السيارة ايضا انها جمعت كل الكتاب الصحافيين تحت مظلة رشوة موحدة. وهو زعم لا يوافق العقل ولا يوافى المنطق. لماذ؟ لان الكتّاب مقامات. هل يعقل ان تتم رشوتى انا، مصطفى عبد العزيز البطل على سن ورمح، بسيارة جياد، ويكون ذلك على قدم المساواة مع زعيط ومعيط ممن حضر من الهند والسند وبلاد تركب الافيال! كل واحد سيارة ”جياد"؟ هل جنّت الانقاذ فأصبحت لا تعرف مقامات الكتاب؟ أين ذهبت المقامات اذن؟ والله انه لتذهب الانقاذ بقضها وقضيضها ولا تذهب المقامات. وانا اعرف لنفسى قدرها فلا أقبل من الرشا الا ما ينزلها منزلتها، ويوافق آفاقها، ويميزها عن غيرها من عامة المرتشين. ومن باب التنوير لمن يهمه الامر، وبغرض درء مثل هذه التخاليط فى المستقبل، فاننى اعلن من خلال منبرى هذا، بغير لبس او ابهام، بأن على من يفكر فى تدجينى وارتهان قلمى ان يكون مستعدا بواحدة من ثلاث: ( لكزس) من سلالة الساموراى، او ( فولفو) من عذارى اسكندنافيا؛ او (بى ام دبليو) من عترة هتلر واهل بيته من صفوة أعراق التكنولوجيا الآرية. أما (جياد) فلا ثم لا!
(3)
وبرغم ان الله سبحانه وتعالى فتح على فتحا جزئيا، ومكننى فى مراحل لاحقة من اقتناء وقيادة السيارات، فانه وضع لى ضوابط معينة لا اتجاوزها وبالتالى اصبح مجال حركتى فى هذا المضمار محدودا بحدود مواردى المالية التى قررها لى. ولكننى تحايلت على تلك الضوابط تحايل المضطر لركوب كل وسيلة ممكنة لارضاء رغباته فى التعرف على جميع انواع السيارات وتجربتها والاستمتاع بقيادتها. وفى الولايات المتحدة آلاف الوكالات المتخصصة فى بيع السيارت، ومن الممارسات المعتادة لدى هذه الوكالات انهم يتيحون للراغبين فى الشراء اختيار بعض السيارات الجديدة الفارهة المعروضة وقيادتها والاحتفاظ بها لبضعة ساعات بغرض التعرف على السيارة ومزاياها واتخاذ قرار الشراء من عدمه بناء على ذلك. ولذا فاننى فى اوقات فراغى كثيرا ما اتوقف امام اى من هذه الوكالات عند ظهور دعايات موديلات جديدة من السيارت واطلب من وكلاء البيع تجربة واحدة منها، وهكذا فانك ترانى بين الفينة والاخرى مبرطعاً فى شوارع مدينة منيابوليس مستمتعا بقيادة احدث انواع ال (ساب) الفرنسية وال ( آودى) الالمانية وال ( فيرارى) الايطالية.
كانت آخر سيارة اخذتها من احد الوكلاء وسرحت بها فى شوارع المدينة هى سيارة ( مازدا سكس)، ولكننى فى هذه المرة لم اكن ممارسا لهوايتى المجردة، بل اننى استعرت السيارة بنية شرائها فعلا بعد ان قرأت تقريرا منصفا عنها فى احدى مجلات رعاية المستهلكين الامريكية المتخصصة تصفها بانها من اصلح السيارت لاهل الطبقة المتوسطة. وسيارة مازدا من افضل ما انتجت التكنولوجيا اليابانية ولها مكانة طيبة فى جميع انحاء العالم، باستثناء السودان. فقد بغى السودانيون على المازدا ظلما وعدوانا ولطخوا شرفها ومسحوا بها الارض، وما زالوا يقذفون فى عرض المازدا ويلصقون بها المزاعم الكاذبة حتى اطلقوا عليها بغير وجه حق ( مازدا الفاسدة / حديدة كاسدة )، وتغنت الحسان: ( ما بركب المازدا ). ولكن عهدى بالاقامة فى السودان قد طال، وربما راجع اهل السودان انفسهم فى امر المازدا خلال سنوات غيبتى واعادوا لها كرامتها وردوا عليها ريشها. وان فعلوا لكانوا من المُحسنين، ذلك ان قذف السيارات العفيفة بدون بينة، مثل قذف المحصنات الطاهرات، عواقبه وخيمة.
دارفور وحكومة الانتفاضة
كتبت ضمن مقال الاسبوع الماضى عبارة اتضح لى لاحقا انها تفتقر الى الدقة، فكان لا بد من عودة تقويمية. كتبت:( وقد راعى قادة الانتفاضة الرجبية مبادئ المحاصصة القبلية والجغرافية الى حد كبير عند تشكيل مؤسسات الحكم الانتقالى فى العام 1985). تعقيبا على هذه العبارة كاتبنى الدكتور بخيت خاطر خميس من المملكة المتحدة مؤكدا انه لا المجلس العسكرى الانتقالى الذى ترأسه المشير عبد الرحمن سوار الدهب، ولا مجلس الوزراء الانتقالى لحكومة الانتفاضة الذى ترأسه الدكتور الجزولى دفع الله اشتمل على عضو واحد من منطقة دارفور. وقد قمت من فورى باحالة رسالة الاخ الكريم الى الاستاذ ابراهيم طه ايوب، وزير خارجية حكومة الانتفاضة الذى وافانى بردٍ مستفيض أمّن فيه على افادة الدكتور بخيت خاطر خميس، بيد انه اشار الى عدد من النقاط الهامة فى صدد التوضيح والقاء الضوء على هذا الامر.
من ابرز هذه النقاط: ان معايير واجراءات الاختيار لمؤسسات الحكم الانتقالى كانت مفتوحة وعلى درجة عالية من الشفافية، فبالنسبة لعضوية المجلس العسكرى الانتقالى جاء الاختيار، وفقا لاعتبارت عسكرية مجردة، فكانت العضوية قصرا على قادة الوحدات العسكرية بالعاصمة بالاضافة الى قائد سلاح البحرية ببورتسودان، وقد شاءت عوامل المصادفة البحتة الا يكون ايا من هؤلاء القادة من منطقة دارفور. أما مجلس الوزراء الانتقالى فقد قامت النقابات المهنية بالدور الاساسى فى اختيار اعضائه، حيث قامت كل نقابة باختيار ممثل لشغل منصب معين، وذلك باستثناء وزيرى الدفاع والداخلية اللذان اختارتهما القوات النظامية، بالاضافة الى وزير التربية والتعليم (ممثل الاخوان المسلمين). وعليه فإن التساؤل الاقرب الى المنطق هنا ليس هو: لماذا لم يكن هناك ممثلين لدارفور فى المجلسين، بل لماذا لم يكن هناك دارفوريون فى قيادة وحدات القوات المسلحة، ولماذا لم يكن هناك دارفوريون فى قيادة الحركة النقابية؟! بيد ان النقطة الاكثر اهمية فى هذا الصدد، وفقا للاستاذ ابراهيم طه ايوب، هى ان المفاهيم القبلية والجهوية لم تكن - حتى ذلك العهد – قد استشرت وسادت بحيث تتخذ بين السودانيين معيارا لاختيار القيادات السيادية والتنفيذية. وان القبلية والجهوية لم تسفر بوجهها الكالح القبيح الا فى المرحلة الزمنية التى تلت انقلاب 1989.
نصوص خارج السياق
اننى ضد ان يحمل المناضل اسم جيفارا او سيمون بوليفار على شبكة الانترنت، ويشتم الحكومة ويهددها بالويل والثبور، ثم يفارق حاسوبه ويحمل اسم محمد احمد ويذهب الى عمله فى تلك الدائرة الحكومية او الخاصة حيث يكون الشعب فى آخر سلم الاولويات. اننى ضد ان يبث مناضلو الكيبورد اشعار احمد مطر من مهاجرهم الدافئة لتحريض الشعب على الكفاح والثورة والموت فى سبيل القضية، ثم يغلقون كمبيوتراتهم ويذهبون للحصول على احتياجاتهم من محلات سيفواى او سينسبرى او شامبيون او وولويرث. اننى ضد ان يحول البعض هجرتهم او اغترابهم من اجل حياة افضل الى موقف سياسى وثورى ونضالى. هناك البعض ممن خرجوا من السودان فى الستينات او السبعينات او الثمانينات، ثم ركبوا قطار المعارضة حين جاءتهم فى مكانهم، ومن مهاجرين ومغتربين غيروا صفتهم الى " منفيين ". وقد روى عن صديق عابث انه وصف خروج المعارضة بعملها الى الخارج بأنه " جاء مع بعض الناس فى السلك".
(محمد عثمان ابراهيم ردا على الفنان التشكيلى والناقد د. حسن موسى فى موقع " السودان للجميع")
عن صحيفة ( الأحداث )
مقالات سابقة:
http://sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoname=%E3%D5%D8%DD%EC%20%DA%C8%CF%C7%E1%DA%D2%ED%D2%20%C7%E1%C8%D8%E1&sacdoid=mustafa.batal


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.