لم تكن رواية موسم الهجرة إلى الشمال هي الرواية الأولى التي ظهرت للطيب صالح بل سبقتها على أقل تقدير روايتان إحداهما عرس الزين والثانية بندر شاه ثم تأتي بعد ذلك موسم الهجرة إلى الشمال. ويقفز إلى الذهن سؤال مُلح: لماذا موسم الهجرة؟ ولماذا في هذا الوقت؟ وأين كان رجاء النقاش قبلها؟ مع أن موسم الهجرة هي واسطة العقد في روايات الطيب صالح التي لم تزد على خمس روايات مع أنه كان من المفترض لرجل مبدع في قامة الطيب صالح كما يقول الصخب الإعلامي الذي يصاحب اسمه كلما قيل أو ذكر أن يكتب منذ عام 1968م إلى حين وفاته بين حوالى أربعين عاماً ما لا يقل عن عشرين رواية.. إن من الأشياء المدهشة والمحيرة فعلاً أن يقول الطيب صالح بنفسه عن رجاء النقاش وتقديمه له «كانت جرأة كبيرة منه أن يصفني وكنت لا أعرفه ولا يعرفني- بأنني عبقري روائي». وبمعنى أدق ومباشر أن رجاء النقاش لم يكن بالنسبة للطيب صالح صديق عمره بل لم يكن يعرفه على الإطلاق حتى عام 1966م أو 1968م والسبب غاية في الوضوح فالطيب صالح التحق بالإذاعة البريطانية عام 1953م وعمره لا يزيد على أربعة وعشرين عاماً، وهاجر إليها من السودان مباشرة، فلم يكن متاحاً لرجاء النقاش أن يكون صديق عمره ولا أن يعرفه. يسارع رجاء النقاش بتقديم الرواية «الفخيمة» كما وصفها بعض المعجبين بالطيب صالح إلى دار الهلال التي أسسها «جرجي زيدان» وتسارع الدار إلى تبني نشرها وطباعة عشرة آلاف نسخة وتتساوق الأحداث فلا يجد رجاء النقاش موزعاً للرواية إلا مكتبة مدبولي!! ولأهل السودان مع مكتبة مدبولي قصة في أحد معارض الكتاب التي أقيمت في السودان في السنوات الأخيرة وحتى تكتمل الصورة بعض الشيء تسارع الجامعة الأمريكية في القاهرة بجعل الرواية جزءًا من مقرر القصة في كلية الآداب!!. وأقول لكم !! على الخبير سقطتم .. فأنا خريج جامعة بيروتالأمريكية مع الفارق الكبير بين بيروتوالقاهرة.. وبالرغم من أنني طالب كيمياء إلا أنني كان لا بد لي للتخرج من دراسة كورسات ثقافية.. وهل تصدقون!! لقد كنت مرغماً على دراسة ثلاث روايات لنجيب محفوظ وهي اللص والكلاب وميرا مار وزقاق المدق. ورغم أنفي تقفز إلى ذاكرتي وتزحم مخيلتي بعض المشاهد في رواية زقاق المدق وبطلتها حميدة التي كان الكاتب الألمعي نجيب محفوظ يفرض عليها أن تتزين وتتجمل وتتعطر ثم يدفعها دفعاً للخروج إلى الشارع حيث تتمخطر وتتمرصع بأمر مباشر من المؤلف إذ أن حميدة في غالب الأمر شخصية وهمية من صنع المؤلف ونجيب محفوظ وحده هو الشخصية الحقيقية، ومع أن الأمر كله من صنع نجيب محفوظ وأن حميدة لا ناقة لها فيه ولا جمل إلا أن الكاتب الألمعي نجيب محفوظ يصف بطلته بأنها عاهرة بالسليقة. أظن أن هذه العبارة هي التي رشحت الرواية لأن تقرر على أمثالي من طلاب العلم في الجامعة الأمريكية.. ولعله من المدهش جداً أن يتعرض نجيب محفوظ لمحاولة اغتيال عام 1995م «حسب ما أذكر» وأن يُرد السبب حسب التحليلات والاستقراءات إلى رواية أولاد حارتنا التي كتبها حوالى عام 1959م أو 1960م والتي اعتبرها الأزهر مسيئة للذات الإلهية.. بعد كل هذا الذي قدمناه نسأل السؤال الذي أشرنا إليه في البداية هل تمثل بت مجذوب في رواية موسم الهجرة نفس شخصية ودور حميدة البت الشغالة في رواية زقاق المدق؟ وهل صنع الطيب صالح بت مجذوب تماماً كما صنع نجيب محفوظ حميدة؟. وأنا الآن استطعت أن أكتب العبارة التي أهّلت زقاق المدق لأن تدرّس في الجامعة الأمريكية.. فهل يستطيع أحد المحتفين بالطيب صالح أن يكتب العبارة التي جرت أو أجراها الطيب صالح على لسان بت مجذوب؟ لا أظن. لقد قمت بدراسة متأنية تأملية لروايات الطيب صالح حتى لا أظلمه، ولم أكتب شيئاً لا لنفسي ولا للآخرين.. ولا أظن أن من الإنصاف أن ننفي عن الرجل ونحرمه من أي مقدرات أدبية فهو له تعابير أحياناً في غاية الجمال والروعة.. ولكن لو عرضنا أدبه على المنهج المتكامل في النقد الأدبي فلا أظن أن يقف منا من تتوفر له الحماسة أو الشجاعة ليقترح مقترحاً بترشيحه لجائزة نوبل للآداب والفنون، وأنا شخصياً لا أمانع أن يرشح الطيب صالح لنيل الجائزة لأنني أعلم علم اليقين أن الجائزة لا تمنح للإبداع الأدبي المجرد وإنما لدواعٍ أخرى مصاحبة أو منفردة، فلعلها توفرت في الطيب صالح كما توفرت في سلفه نجيب محفوظ مع الفارق الكبير في روايات هذا وذاك...