بعد أن انفصل الجنوب وأصبح دولة قائمة بذاتها تمنى الجميع أن تطوي الدولتان الجارتان صفحات الماضي الدموية بكل إحنها ومحنها بعد عقود تطاول أمدها شهدت حرباً استنزافية طويلة أُزهقت فيها أرواح كثيرة عزيزة وأهدرت موارد مالية ضخمة وبددت طاقات بشرية هائلة عطلت عن العمل والإنتاج. وكان الأمل أن تعترف كل دولة بخصوصية الدولة الأخرى وسيادتها ولا تتدخل في شؤونها الداخلية ولكن وبكل أسف فإن العلاقات متوترة بين الدولتين بسبب الثارات القديمة والاحتقانات المترسبة والقضايا المعلقة التي لم تحسم أثناء سنوات الفترة الانتقالية الست وهناك تراشقات والنار من مستصغر الشرر وإذا فلتت الأمور وانطلقت الحرب لا قدّر الله فإنها ستكون حرباً استنزافيه مفتوحة لن توقفها مفاوضات ولا وساطات إقليمية ولا دولية والمؤسف أن بعض هذه القوى هي التي تقوم بكل خبث بإشعال نيران الفتن وصب الزيت عليها. وبلا تدخل في خصوصيات الآخرين إلا أن دولة الجنوب الوليدة الجديدة مازالت غضة الأطراف وتحتاج لتوفيق أوضاعها الداخلية والاستفادة من تجارب الآخرين في المحيط القاري، والمعروف أن كثيراً من الدول الإفريقية تقوم علي توازنات قبلية نتيجة لاحتدام الصراعات بينها وإذا أخذنا بعض النماذج على سبيل المثال فإن يوغندا تولى الرئاسة فيها عقب الاستقلال الدكتور ملتون ابوتي ووقعت معركة بينه وبين الكباكا ملك الباغندا في يوغندا وانتهت بانتصار ابوتي وفرار الكباكا وبعد سنوات أطاح عيدي امين حكم ابوتي واستمرت الصراعات القبلية وتوالت الانقلابات ومنذ أن آلت السلطة لموسيفيني ظل يعاني من الصراعات القبيلة وهجمات جيش الرب. وحتى الزعيم التاريخي لكينيا جوموكنياتا فقد عانى من الصراعات والتفلتات القبلية، ومع ان كينيا تعتبر من الدول الإفريقية النادرة التي لم يقع فيها انقلاب عسكري الا ان الديمقراطية المطبقة فيها تقوم على المنافسات والتوازنات القبلية أكثر من أي شيء آخر.. أما في تنزانيا فإن ما جرى للعرب والمسلمين في زنجبار من مذابح فإنه يدل على الوحشية وسواد النفوس وأحقادها.. وفي زامبيا تحالف الزعيمان أنكومو وموجابي قبيل اعلان الاستقلال وعند إجراء أول انتخابات تفجرت الصراعات بينهما وحسمته الاغلبية القبلية لصالح موجابي.. وفي ساحل الذهب التي عرفت فيما بعد بدولة غانا بزغ نجم رئيسها الدكتور كوامي نكروما في سماء القارة الإفريقية ولكن العوامل الداخلية والتركيبة القبيلة والسكانية أدت لإطاحته في انقلاب عسكري في عام 1966م وذهب نكروما الحاكم وبقي نكروما المفكر.. أما نيجيريا فقد ظلت تشهد صراعات إثنية ودينية وجهوية متصلة بين شمالها وجنوبها وبين كل مكوناتها وتقلبت بين الأنظمة العسكرية والمدنية. وهذه مجرد نماذج.. وإن دولة الجنوب الوليدة تحكم الآن بحكومة يحفظ «الخواجات» الراعون لها توازنها ويكبحون جماح قادتها لئلا تحدث بينهم صراعات ومنازعات أي أن هذه المرحلة الانتقالية هي مرحلة تهدئة للأوضاع مع إيهامهم بأن عدوهم المشترك هو دولة السودان الشمالي ولكن هذه المسكنات أمدها محدود وعند إجراء أول انتخابات عامة رئاسية وبرلمانية وولائية بالجنوب ستتفجر الصراعات الحادة كما يتفجر برميل مليء بالبارود ولن تكون صناديق الانتخابات هي الحاسمة بل ربما يتدخل السلاح في كثير من الأحيان لحسم الأمور ولن يكون الصراع قبلياً فقط بل إنه سيكون صراعاً مركباً بين القبائل ويمتد أكثر لتصطرع فروع القبيلة الواحدة وخشوم بيوتها وسيطفو للسطح الصراع التاريخي الجهوي الاثني بين الاستوائيين والنيليين وربما يُفضي لانفصال جديد ومن الأوفق أن يسعى الجنوبيون لتوفيق أوضاعهم الداخلية لئلا يشهدوا حرباً أهلية من جهة وحرباً أخرى يبتدرونها مأمورين ولا يقدرون عليها ضد جمهورية السودان من جهة أخرى. وإن الحالمين من السياسيين الجنوبيين المهووسين مازالت تراودهم أوهامهم القديمة في إقامة سودان جديد وفق هواهم في دولة جارة لهم وفي هذا تدخل وحشر لأنوفهم في الشؤون الداخلية للآخرين وقد وجدوا من عدد من الشماليين المتمردين من يعقد معهم التحالفات ويصبحوا أدوات طيعة في أيديهم للقيام بأي أدوار قذرة يطلبون منهم القيام بها ضد وطنهم. وفي الجانب الآخر فإن النظام الحاكم في جمهورية السودان يجابه تحديات اقتصادية وأمنية وسياسية وغيرها وعليه هو الآخر توفيق أوضاعه الداخلية وهناك تهافت على المواقع أو تشبث بها لا تخطئه العين وعلى المستوى الاتحادي ظل عدد منهم ولمدة اثنين وعشرين عاماً يعتلي الواحد منهم منصبين أو أكثر في وقت واحد وإذا فقد موقعاً فإنه لا يكتفي ببقية مواقعه ولكنه يبدي غضبه وتبرمه وليس من اللائق في ظل الظروف التي يمر بها الوطن أن ينشغل البعض بحظوظ النفس والذات الفانية. وإن القوى الاستعمارية الأجنبية ظلت تتعامل مع النظام الحاكم برفع العصا تارة ورفع الجذرة تارة أخرى وسعت لإيجاد نسخة منقحة مستأنسة من الانقاذ وإبعاد من تعتقد أنهم متطرفون وعندما فشلت محاولاتهم لأن النظام قائم على شراكة ومنلوج داخلي يفهمه الشركاء وحدهم ويحسب كل منهم أن له حقاً أصيلاً في أصول الشراكة مع الانحناء للعاصفة حتى تمر إذا حدث أي خلاف بينهم في وجهات النظر بإبداء تنازلات من هنا أو من هناك ولذلك أرادت القوى الأجنبية أن تتتخذ من دولة الجنوب أداة ضغط على النظام الحاكم في السودان لإضعافه ومن ثم إسقاطه وسعى الحاكمون هنا لمد الجسور مع الأمريكان وغيرهم دون جدوى وكلما قدم هؤلاء تنازلات رفع اولئك سقف مطالبهم وشروطهم.. وهناك ثمة ملاحظة ينبغي أن يقف عندها الجميع متأملين فقد شهدت الساحة السودانية أحداثاً مثل محاولة هدم قبة الشيخ ادريس ود الأرباب التي لم يُعرف من قاموا بها وقد تبرأت كافة الجماعات الإسلامية من هذا الفعل الذي قصد المخططون له إحداث فتنة بين المسلمين. وشهد ميدان المولد بأمدرمان لأول مرة تشابكاً بالأيدي والعصي أدى لإصابات جسدية والمقصود أيضًا إحداث فتنة.. وان من يتوددون للخواجات سيعلنون في تقاريرهم المضللة أن السودان تجتاحه الآن موجة عاتية من التطرف وأن المتطرفين هم البديل للنظام وعليهم ألا يستبدلوا الحمائم بالصقور وإن بعض المعارضين المتدثرين بثوب الإسلام سيدخلون في الخط متوددين ويعلنون إدانتهم للتطرف ليكونوا هم البديل وقد ترتخي قبضة الخواجات قليلاً تجاه النظام الحاكم ويعودون للعبة القط والفار والعصا والجذرة والنظام مطالب شعبياً بأن تكون مواقفه واضحة لادغمسة فيها وكان الله في عون السودان ونصره وحفظه من تربص المتربصين به. وإن قادة حكومة الحركة الشعبية في الجنوب هم أدوات في ايدي الخواجات ويسددون لهم الفواتير بالامتثال لأوامرهم وإن الحل والعقد في مفاوضات أديس ابابا بين الدولة الأم والدولة الوليدة بيد القوة الأجنبية ولذلك فإن هذه المفاوضات السقيمة العقيمة تدور في حلقة مفرغة والممسك بالخيوط هو الفيل وليس ظل الفيل.