- والدكتور جاستن باريت، كبير الباحثين في مركز علم الإنسان والعقل «Centre for Anthropology and Mind» بجامعة أوكسفورد، اهتَدَى، بمساعدة فريقٍ أكاديميٍّ متميز، وبعد بحثٍ دؤوب ومكثف، إلى ذات ما اهتَدى إليه مفكِّرٌ وفيلسوفٌ وفلكي ورياضي وشاعر عربي قبل حوالي تسعة قرون، ولكنَّهُم اعتَبَرُوا ما جاءُوا به أمراً جديداً، بينما كان ابنُ طُفيل «أبو بكر محمد بن عبد الملك بن طفيل القيسي الأندلسي»، العلاَّمةُ المُسلِمُ العَرَبي، وأوَّل »روائي« في العالم، وصاحب أوَّلِ عملٍ يجمعُ بين الأدب الرفيع و«العِلم« الوثيق، كان يعلَمُ وهو يكتُبُ روايتَهُ «حيُّ بنُ يقظان» أنَّهُ يُقَدِّمُ تعبيراً عملياً وعِلميَّاً «أنثروبولوجيَّاً» لبعض مدلولات قول الله تعالى في كتابه العزيز : «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ» والمُعَبَّرُ عنهُ في صحيح الحديث النبوي بقول الصادق الأمين، صلواتُ الله وسلامُه وبركاتُه عليه وعلى آلِهِ: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانِهِ أو يُنَصِّرانِهِ أو يُمَجِّسانِهِ».. - بحثُ الدكتور جاستن باريت، أسفرَ عن يقينٍ كاملٍ لديه حسب صحيفة التيليغراف البريطانية بأنَّ كُلَّ مولُودٍ »يُولَدُ على الفِطرة«، أي يُولَدُ مؤمِناً بالله تعالَى إيماناً فطرياً، وهذا ما عبَّرَ عنْهُ بالحرف، بعد مجموعةٍ ضخمةٍ من الاختبارات التي أجراها على أطفالٍ ما بين بضعة أشهُرٍ وسبع سنوات، قائلاً: young people have a predisposition to believe in a supreme being because they assume that everything in the world was created with a purpose. «لدَى الأطفال ميلٌ فطريٌّ إلى الإيمانِ بِقُوَّةٍ عُظْمَى مُسيطِرة، لأنَّهُم حسب ما أفادتهُ الاختبارات- يؤمنون بأن كل ما في هذا العالم مخلوق لسبب».. ولا يقفُ الدكتور عند هذِهِ العبارات فحسب، بل يقولُ أيضاً كما لو كانَ قد اطَّلَعَ على »حيِّ بن يقظان« لابن طُفيل يقُولُ ذاتِ ما سَعَى إلى تأكيدِه ابنُ طُفيل في روايتِهِ العميقة: even those raised alone on a desert island would come to believe in God. «حتى أولئك الأطفال الذين ينشأُون وحيدين، في جزيرةٍ معزُولة، سوف ينشأُون مؤمِنين بالله» .. ولعلَّكَ تُوقِنُ أنَّ الدكتور باريت، الذي لم يأتِ خلال بحثِهِ على ذِكرِ ابن طُفيلٍ مُطلَقاً، قد اطَّلَعَ إمَّا على كِتابِ ابنِ طفيلٍ »حيُّ بنُ يقظان« أو على خلاصته، في مكانٍ ما، لأنَّهُ لن يكُونَ أبداً من قبيل المصادفة أن يتحدث الدكتور جاستن باريت عن »أطفالٍ ينشأُونَ في جزيرةٍ معزُولةٍ عن كُلِّ تأثيرٍ بشري، فيُوصِلُهُم الهُدى المركوزُ في فطرتِهِم، إلى وجُودِ الخالق الأعظم ومن ثم عبادتهِ»، وأنت تعلَمُ أن حيَّ ابنَ يقظانْ الشخصيَّة التي افترضَها ابنُ طُفيلٍ ثُمَّ راحَ من خلالِ سُلوكِها يُدَلِّلُ على فكرةِ الإيمان الفِطري، هو طِفلٌ رضيعٌ ألقتْ به الأقدارُ وقد كانت أُمُّهُ شقيقة ملكٍ جبَّارٍ منعها الأزواج، فتزوَّجَت سرَّاً من ابن عمها »يقظان«، ثُمَّ لمَّا حبُلَت بهِ ووضعتهُ خافت بطش أخيها الملك بها وبزوجها وطفلهما، فأرضعتهُ ثم وضعتهُ في تابوتٍ ألقت به في البحر، فألقت به الأمواجُ إلى جزيرةٍ مهجُورةٍ، تركَهُ المدُّ عندها، فتكفَّلَت بتربيتهِ ظبيةٌ من ظباء الجزيرة، فنشأ في الجزيرةِ دُونَ أن يرى بشراً أو يتلقَّى عن بشر .. مؤمناً بالله!!». وبالطبع، لا تقتصِرُ نتيجةُ هذا البحث على تأكيدِ ما أكَّدَهُ القُرآنُ الكريم منذُ أربعة عشر قرناً، أو تأكيدِ حديثِ النبي صلواتُ الله وسلامُهُ عليه، المُفَسِّر لهذه الآية، بل تُؤَكِّدُ أنَّ من عُلَماءِ المُسلمين من سبَق عُلَماءَ الغربِ المُدَجَّجين بوسائل البحث الحديثة والتخصُّصات الدقيقة، والإرث العلمي التراكُمي الهائل، في التوصُّل بإمكاناتِ بحثٍ غايةً في البساطة والتواضع، وتُراثٍ عِلميٍّ غايةً في البدائيَّة ورثتهُ الدولة الإسلامية عن اليونان والرومان والفرس، وقبل زُهاءِ عشرةِ قُرونٍ، إلى حقائق أكثر دِقَّةً ومتانةً مما توصَّلَ إليه رجالٌ رُبَّما طمِعُوا في جائزة »نوبل« ببحوثٍ عِلميَّةٍ مسبُوقةٍ بأقلامِ رِجالٍ استلهَمُوا كتاب الله العزيز، كابنِ طُفيل.