إن حالة مزاجية ظلت تسيطر على حركة الفقه الإسلامي بين الترخص والتشدد، فالمترخصون لا ينجو نص محرم وداع للعزيمة من تضعيفهم أو تأويلهم. والمتشددون لا ينجو نص يدعو للسعة واليسر من التضعيف أو التأويل حتى قال الأول كل نص خالف قواعد المذهب يؤول أو يهمل!! وباتت نصوص الوحي متحكماً فيها لا متحاكماً إليها، وفرق بين الحالتين حالة الاحتكام للنص بتجرد وموضوعية من غير موقف سابق يعمل الإنسان على نصرته، وحالة التبنى لموقف ما أولاً ثم البحث عن أدلته وبراهينه في محاولة لتوظيف النصوص لنصرة المواقف والنظر في النصوص هو المطلق للتقعيد، وليس التقعيد أمر سابق للنصوص، فمن أين بنينا تلك القواعد المذهبية إن كانت حاكمة للنصوص، فمن أين هي؟ فإن قلنا من النصوص نفسها فما هو المنطق الذي يجعل نصاً أقوى من نص إلا ما كان من سياقات النصوص نفسها، وهى أربعة يعلمها كل عربي دعك من أن يكون فقيهاً، بل يعلمها كل متكلم، وهي جارية في حديث الناس ومعاشهم وحياتهم من حمل المطلق على المقيد والعام على الخاص والمجمل على المبين والمتشابه على المحكم، فالرجل إن قال سأزوركم يوماً معا ثم قال سأزوركم يوم السبت علم كل صاحب عقل بيانه لما أجمل بما فصل. إن نصوص الوحي في ظل تلك المزاجية المترخصة أو المتشددة، والله عز وجل الذى ارتضى الاسلام دينا لعباده ارتضاه لقوم نوح وقوم إبراهيم وقوم موسى وعيسى والبشرية كلها التى أرسل إليها خاتم رسله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، اذ كان دين الانبياء كلهم هو الإسلام، واليهودية والنصرانية أسماء ما أنزل الله بها من سلطان لم يسم الله بها اتباع نبي، لكن المبدلين من بعده هم الذين أطلقوا على أنفسهم هذه الأسماء، حيث يقول تعالى في شأن إبراهيم: «إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ* وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ» البقرة: 131 132، وأخبر أن بني يعقوب أقروا على أنفسهم بالإسلام فقال: «أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» البقرة: 133، وقد وصف إبراهيم بالإسلام ونفى عنه اليهودية والنصرانية، فقال: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «آل عمران:67»، وأخبر أن سحرة فرعون بعد إسلامهم دعوا الله تعالى فقالوا: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ «الأعراف:126»، وأخبر أن نوحاً عليه السلام قال في خطابه لقومه: «فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» يونس:72، وأخبر أن موسى عليه السلام قال في خطابه لبني إسرائيل: «وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ» يونس:84، وأخبر أن سليمان عليه السلام قال في رسالته لسبأ: «إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ٭ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ» النمل:30 31، ووصف سبحانه وتعالى بيت لوط بالإسلام، فقال فيهم «فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ» الذاريات: 36، وأخبر تعالى أن الحواريين أشهدوا عيسى على إسلامهم، فقال: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» آل عمران:52. ولما كان الإسلام هو دينهم جميعاً مع اختلاف شرائعهم علمنا أن قاعدة الإسلام إنما هي ما يسلم له لا ما يسلم به، إذ ما كانت تدعو للتسليم به شريعة إبراهيم غير ما كانت تدعو للتسليم به شريعة موسى او عيسى او محمد عليهم الصلاة والسلام، لكن الجميع كان يصدر عن الله ويرجع للوحي ويبحث عن مراد الله في مظانه وهو النص، ولا مظان لمعرفة مراد الله غير النص، وفي هذا السياق يمكننا أن نعرف بعمق وندرك بوعي ونفهم برشد قوله صلى الله عليه وسلم «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر»، قال الحافظ الخطيب البغدادي رحمه الله: «فإن قيل: كيف يجوز أن يكون للمخطئ في ما أخطأ فيه أجر، وهو إلى أن يكون عليه في ذلك إثم لتوانيه وتفريطه في الاجتهاد حتى أخطأ؟ فالجواب، أن هذا غلط لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل للمخطئ أجراً على خطئه، وإنما جعل له أجراً على اجتهاده، وعفا عن خطئه لأنه لم يقصده، وأما المصيب فله أجر على اجتهاده، وأجر على إصابته» قلت: الحكم له بالاجر ارحم به من حكم الحاكمين له من معتدلي مخالفيه بالعذر اذ العذر معنى استعلائي والأجر معنى عظيم الرحمة والمنة من ربنا عز وجل، ذلك لأن المجتهد المخطئ قد قام فى قلبه إسلام وتسليم عظيم لربه تبارك وتعالى، اذ هو سلم الى ما انتهى اليه اجتهاده بعد البحث فى النصوص ظناً منه أنه حكم الله تعالى، والله عز وجل قد أثابه على ما وقع منه من عظيم الجهد وإخبات التسليم، وإن كان المسلم به في الحقيقة مخالفاً لما يريده الله عز وجل فصح ما ذكرناه سابقاً أن الإسلام مداره على من يسلم له لا ما يسلم به، وهو معنى لطيف إذا فتح الله به بصيرة عبد وقع له من فهم الدين وفقهه خير عظيم.