سار خيال مترنح في جوف الليل يحمل الليل في أعماقه وصوت تنفسه يعلو على كل صوت آخر يكاد يصم أذنيه.. يحمل حقيبة صغيرة لكنها بالنسبة إليه تشكل جبلاً من الهموم.. يجب أن يتخلص منه.. سار طويلاً حتى تقرحت قدماه ولا يزال الطريق ممتدًا بلا نهاية.. تثاقلت خطاه.. وانغرست قدماه في التعب لقد هده طول المشوار.. ومع ذلك لا بد من مواصلة السير.. وعلى البعد لاحت شجرة النخيل الباسقة.. فتهللت أساريره ونشطت خطواته.. وأسرع في اتجاهها.. ليس المشوار بعيدًا الآن.. واصل سيره المترنح وقد دبّ فيه بعض النشاط.. نظر إلى الحقيبة في يده فارتعشت أجفانه وندت عنه تنهيدة طويلة.. هل يرتاح قليلاً في ظل هذه النخلة؟ وأطلق ضحكة ساخرة مبللة بالحزن: أي ظل وأنت في الليل أيها الغبي.. آه نعم لا يزال الليل هنا.. تلفت حوله وحاول أن يواصل سيره إلا أنه تهاوى إلى الأرض منهكًا.. لقد تمردت عليه قدماه.. فليكن أنه يحتاج لبعض الراحة.. وضع رأسه الثقيل على الحقيبة وأسلم جسده للتراب.. وبعد قليل كان يقط في نومٍ عميق كأنه الغيبوبة.. وامتدت يد دامية تمسك بعنقه تخنقه.. تقلب في نومه وأصدر أصواتًا بشعة وهو يطوح بيديه مقاومًا من يخنقه.. جاء صوت وديع أرغم اليد الدامية على الابتعاد عن عنقه.. تقلب في نومه وهدأت أنفاسه قليلاًَ.. وما لبث أن هب صارخًا وهو يمسك بطنه متلويًا وبقايا كابوس رهيب تتناوشه.. لقد طعنني الرجل.. طعنني.. ثم نظر إلى ثيابه.. ليس هناك دم.. لقد كان حلمًا آخر بشعًا.. نهض برأس ثقيل وأرجل متيبسة هدّها التعب.. لا بد من مواصلة المشوار لقد قطعت وعدًا.. حمل الحقيبة مترنحًا ورفعها على ظهره علّه يخفف حملها عن يده.. لاحت له القرية التي يقصدها.. الحمد لله ها هي البيوت قد ظهرت أخيرًا.. سار إلى أقرب منزل وطرق الباب بأصابع مضطربة واهنة.. لم يفتح له أحد.. لعل أهله نائمين.. واصل سيره إلى باب آخر.. كلا لا فائدة يبدو أنهم أيضًا نائمون.. فأُجرِّب هذه النافذة طرقها برقة أولاً ثم بصوت عالٍ وهو يحس أن قوته قد بدأت في الانهيار.. لا مجيب لطرقاته.. توقف عن محاولاته يائسًا.. لعلني قد بكرت في الحضور فلأنتظر قرب هذا الباب حتى تشرق الشمس.. استند إلى الباب ونام من فوره.. أيقظه حر الشمس.. نهض متثاقلاً ولوهلة لم يدرِ أين هو.. نظر حوله.. كانت المنازل بلون الرماد ولا أحد هناك.. نادى بصوتٍ مبحوح.. وقد جف حلقه عطشًا.. طاف ببعض المنازل قربه.. كان هناك بعض الناس.. كالحون.. تائهو النظرات.. ناداهم لم يسمعوه.. أريد بعض الماء.. فأشاروا إلى الأواني قربهم.. جرى إليها ببعض الأمل فخارجها كان جافًا... لم يكن بها ماء خرج إلى منزل آخر ثم آخر.. ألا يشرب هؤلاء الناس؟ كيف يعيشون دون ماء.. وهنا استوقفه خاطر عجيب: هل ما زلت أحلم يا ترى؟ أيكون ما أراه كابوسًا آخر؟ تعثر في هذه اللحظة بجسد يرقد على الأرض.. نظر إليه في فزع ليطالعه وجه أغبر آخر قد تلطخ بالمذلة حتى سالت منه على صدره فابتعد مشمئزًا حتى لا يؤذيه بها.. مد إليه الرجل يدًا متوسلة.. هز صاحبنا رأسه في حيرة وتركه ومضى نقل الحقيبة من يد إلى أخرى وثقلها يزاداد في كل حين أليس لهذا الطريق من نهاية؟ ربت عليها معتذرًا لصاحبها الذي لاح في خياله: لا تخف سوف أوصلها لابنتك.. هناك شيء غريب في هذا المكان ليست هناك شجرة واحدة تظل الحر أو نبتة خضراء تخفف صفرة الجدب هذه.. أهي بلدة ملعونة؟ الكلاب تعوي بلا انقطاع وفي صوتها نذير خفي ارتعش له بدنه... لعنة الله على من قتلك يا صاحبي.. ولكنني لم أستطِع نجدتك حين احتجتني.. وهنا اختلجت أعماقه بدمعات صامتة سالت من قلبه إلى مقلتيه.. مسحها بأصابع مرتجفة.. ألا يخبرني أحد أين أجد منزل مصطفى؟ لم يرد عليه أحد.. واصل سيره وقد أخذ منه التعب كل مأخذ إلا أنه لم يهزمه.. ومن بعيد لاحت له أشجار مخضرة! عجبًا.. سعى إليها فرحًا علّه هو.. تعانق باسقات النخل السماء اجتاحه فرحٌ غريب.. إنه يطير في اتجاهها.. فتح الباب قبل أن يطرقه واستقبلته أذرع حانية ارتاح على ضمة أصوات طيّبة أغرقته بالدفء.. وانساب الماء عذبًا إلى جوفه فلم تصدق أعماقه النجاة.. وارتفع صوت عذب صغير يُرتِّل القرآن.. إنها هي.. خذي حقيبة والدك يا أمل.. تطلّع إلى الوجوه النيِّرة حوله في سعادة وأضاءت الحجرة أنوارًا ملائكية.. وضع رأسه ونام في سعادة وبلا كوابيس..