لم تتح تصاريف الحياة للعديد من النجوم ذات الألق الحقيقي، أن تزهر وتضيء في فياح الحياة العامة وسمائها وفضائها العريض.. كثيرون من أهل المعرفة والعلم والإبداع والابتكار، إما لظروفهم الخاصة أو أقدار الحياة وغلظتها، انكفأوا على ذواتهم وتواروا خلف الحُجُب، وتضاءلت بهم السبل أن يكونوا نجوماً تلتمع والناس حولها يدورون ويتصاخبون مثل عش الزنابير.. قست الحياة، إما لأن موجوداتها لا تتّحد على معيار، وناسها لا يتفاضلون بينهم بالقدرات، على كثير من أهل المواهب والأفكار والقدرات، ولم تُعطهم منها ما تأخذه منهم.. فالغافل من ظن الأشياء هي الاشياء.. وعلى مرِّ التاريخ الإنساني تأتلق عقول وشخوص، تملأ الدنيا وتشغل الناس.. لكن في قبو الحياة وسراديبها من هم أجود عطاءَ وأعمق غوراً وأصدق نفسًا، لكنهم لم يركبوا جياد الحظ، ولم يوقدوا تلك المشاعل التي تقدِّمهم للآخرين.. يتوهون على رصيف الحياة لا يلوون على شيء كمسافر بلا حقائب!! ويا لها من محارق.. قصيدة الشاعر العراقي الكبير.. الذي خفتت أضواء روحه بعيداً عن بلده ونخيله ومات غريباً مثله مثل مسافره الذي بلا حقائب.. من لا مكان.. لا وجه، لا تاريخ لي، من لا مكان تحت السماء، وفي عويل الريح أسمعها تناديني تعال.. عبر التلال مستنقع التاريخ يعبره رجال عدد الرمال والأرض مازالت، وما زال الرجال يلهو بهم عبث الظلال مستنقع التاريخ والأرض الحزينة والرجال عبر التلال لعلَّ قد مرت علي.. آلاف الليالي.. وأنا سدى.. في الريح أسمعها تناديني تعال.. عبر التلال أنا وآلاف السنين.. متثائبٌ، ضجرٌ، حزين من لا مكان تحت السماء في داخلي نفسي تموت، بلا رجاء أنا وآلاف السنين متثائبٌ، ضجرٌ، حزين سأكون لا جدوى، سأبقى دائماً من لا مكان لا وجه، لا تاريخ لي، من لا مكان الضوء يصدمني، وضوضاء المدينة من بعيد نفس الحياة يُعيد رصفَ طريقها سأمٌ جديد أقوى من الموت العنيد «ب» في منتهى الأنفاس الأخيرة لعقد السنوات السبعين، كنا نرى ونحن أطفال عند منحنى السنوات بعد العاشرة من العمر، شاباً خجولاً.. حيِيّاً.. هادئاً في بدايات عقده الثالث من عمره، يجوب شوارع حي الوادي بمدينة نيالا، حيث يقطن مع أسرته التي عُرفت بالنبوغ وبساطة الحياة.. كان ذاك الشاب في مرويات الحي والمدينة، شاعراً لا يُشق له غبار ولغوياً متأدباً بآداب اللغة العربية وفنونها وأسرارها.. لم نكن نعلم عن ذلك الكثير، لصغر أعمارنا وقلة اهتمامنا القسري بهذه الجوانب من الحياة، لكننا كنا نراه كطائر خرافي أفرد جناحيه في فضاء الأساطير الغامض.. كان يرتدي دائماً، زياً بسيطاً كأنه متصوف زاهد، يركز حين يمشي بصره إلى الأرض، لا يتحدث مع الناس إلا لماماً، ولا يخالط أصدقاء ولا أصحاباً يمشي وحده لا تصدر عنه إلا همهمات غامضة أو تحية سريعة وعابرة يلقيها على من جلسوا في الطرقات.. يحمل في يديه دائماً أمهات الكتب في الأدب والتاريخ والفقه والمدوَّنات القديمة ودواوين الشعر وكراسات ودفاتر قديمة كتب عليها أشعاره.. ويبدو أن ذلك أعطاه مسحة نورانية باهرة حلت في محياه وجعلته رغم غموضه في نظر أهل الحي.. ملاكاً بلا أجنحة. «ت» عندما كبرنا قليلاً ودخلنا المدرسة الثانوية، وبدأنا نتبين المرئي واللا مرئي في الحياة والفنون والآداب.. بدأنا نستكشف سر ذلك الشاب (محمد عثمان) الذي ازداد غموضًا فوق غموض ونبوغًا لا تداني سماءه سماء.. عرفنا أنه من حَفَظَة القرآن الكريم، ويحفظ معلقات الشعر الجاهلي كأنه سَامَر امرئ القيس أو نَادَم النابغة أو ضمَّه مجلس حكمة ورأي مع زهير أبن أبي سلمى، أوخاض غمار حرب مع النابغة أو أسرج فوق داحس وسابق على ظهر الغبراء وشرب من لبن البسوس. ويحفظ الشعر في عصوره ما بعد الإسلام حتى عصرنا الحديث، وفي ذاكرته مقامات ومناظرات وخطب ومدونات وأقاصيص وحكايات وأشعار مترجمة من بابلو نيرودا ولوركا حتى سافو وشرائح الشعر الجديد في الصين والهند وروسيا وتركيا ورومانيا.. ومدارس النقد الحديث.. غير أنه كان شاعراً مجيداً، يضنُّ بدفاتر أشعاره التي يحتفظ بها في صندوق خشبي في بيتهم لا يسمح حتى لأشقائه بلمسه.. فهو قليل الكلام إذا تحدث، غزير المعرفة اذا اضطر للتوضيح، ساخر النظرة عندما يسأم ويغادر، ضعيف أمام العبارة الجميلة واللغة المدهشة وتوليد المفردات التي تتفتح كزهرة برية في المروج.. ويا له من وله بالأقاح.. «ث» ثم إنه عندما تمطى ليل الغوايات الطويل، وغالبت نفسه رجاءات الطموح، أقسم إنه سيغادر نيالا ليغزو الخرطوم، امتلأت نفسُهُ بتحدٍ غريب، كان تلفزيون السودان وإذاعة أم درمان في ذلك الأوان متأنقة بالأدب والشعر وبرامج اللغويين وسهرات فرسان القصيد، وكان المجتمع كله في النصف الأول من عقد الثمانينيات، لم يزل يرعش فيه وميض المبدعين وتسري في عروقه آيات الجمال.. كتب صاحبنا قصيدة شهيرة سمى بها ديواناً وهي (الملح المُر) قصيدة عصماء من عيون الشعر، ليست بها نقطة واحدة، خالية من كل حروف العربية المنقوطة، واحتوى ديوانه على غرائب الكلمات واستخداماتها وفرائد النظم وتراكيبه.. أعدَّ نفسه لغزوته تلك، معه كل أسلحته، عقله الراجح وذهنه المتوقِّد وذاكرته الذرية، وأشعاره المحكمة ومعارفه الواسعة، وامتشق كل حسام من الحروف والمعاني، ولبس دروعه من القصيد ورشيق اللغة وصلدها.. وعندما تراه في الشارع في تلك الأيام، تظنه يستعد لمعركة فاصلة لا نهاية لها، وأنه سيكسبها لا محالة، بدأ يحدث نفسه في طرقات الحي، وكأنه يدرِّب نفسه بحركات يديه وهو يمشي في الطرق يلوِّح بيديه تارة ويشمخ بجبينه وأنفه نحو السماء كالذي يناطح قرن الشمس ويطعن في خاصرة الجوزاء. «ج» لكن تصاريف الأيام والأقدار حرمت السودان، من نابغة فريد، فسبقت كلمة الله، وتوفي الشاب فجأة، قبل سفره وانطفأ ذلك الوهج سريعاً مضيفاً لمعاوية محمد نور والتيجاني يوسف بشير وعباقرة الأدب في السودان رفيقاً جديداً، كان سيكون له دُوِيٌّ هائل، فقد خانته ظروفُه وأقدارُه ان يجد الاهتمام هناك في عمق حي الوادي في نيالا، ولم تصل إليه وسائط الإعلام حينئذٍ لاكتشافه، فزوى عودُه وغاب الشهاب مستعجلاً بالضوء الصافي... مثله مثل الكثيرين من المبدعين في بلادنا، الذين اعتقلتهم الحياة في الأقاليم والمناطق البعيدة، لا سبيل لهم لمساقط الأضواء ولواقط الأصوات.. لم تعرفهم المنابر ولا شاشات المرئي ولا أثير المذياع والمرناة.. ولم تكتب عنهم الصحف ولم يطبل لهم الدجالون الكذابون.. ولم تحمل صورهم اللافتات والملصقات والكتب والصحف والمجلات.. هؤلاء هم النجوم الحقيقيون المبعثرون في بلادنا.. تجاوزتهم صناعة النجوم.. فهذه الصناعة عندنا كلها خداع وغش وكذب.. النجوم هم القابعون بعلمهم وأدبهم وفنهم وإبداعهم بعيداً عن أدوات الإفك الحديث.. أي الناس أولى بالنجومية الحقيقية، هل هم الأرزقيون.. أنصاف المتعلمين، ومذيعات الشاشات اللامعة، ولاعبو كرة القدم، وأصحاب الأصوات الناعقة بالغناء الهابط وعشاق المنابر وأقلام السوء.. أم المتلفحون بدثار من نور وضياء وبرق.. يعفُّون عند المغانم والمكاسب والتكسُّب.. يعيشون الحياة كما هي.. ويحيون كما يريدون بضمير نقي.. بهي.. مضيء..