من ذا يصدق..!! أن هذا البريق كله والشعر والكلمات ورقيق المعاني... عاش صاحبها وهام وخرج من خباء من وبر؟ هذا الذي نحكي عنه.. لاح كالشهاب برهة ثم غاب في جوف الظلام بلا عودة.. كطيف إنثال على كتف الليل ورحل دون أن يترك شيئاً سوى بضع قصائد نثرها في المكان كحبات من اللؤلؤ.. وراح....!! لكن كثيرين مثله.. لم تلتقطهم أصابع الاشتهار وذياع الصيت.. فلتوا من شباك الضوء ومساقطه وحبائل الصوت ولواقطه.. تسربوا خارج الزمان والمكان وعبقرياتهما الباردة.. إلى مطلق لا محدود عاشوا فيه وسبحوا كنجمة في الفضاء العريض.. والزمن حينئذٍ» صحا من نومه الطيني تحت عرائش القصب». ويصدح بصوته الغسقي خزف الوجود مردداً غناءً أشبه بتراتيل محراب في أقصى نقطة من أكوان العشق الصوفي البديع ... على صوت لسان الدين الخطيب في موشح من موشحاته: في ليالٍ كتمت سر الهوى بالدجى لولا شموس الغرر مال نجم الكأس فيها وهوى مستقيم السير سعد الأثر وطرٌ ما فيه من عيب سوى أنه مر كلمح البصر ٭٭٭ حين لذ النوم شيئاً أو كما هجم الصبح هجوم الحرس غارت الشهب بنا أو ربما أثرت فينا عيون النرجس ٭٭٭ يا أهيل الحي من وادي الغضا وبقلبي مسكن أنتم به ضاق عن وجهي بكم رحب الفضا لا أبالي شرقه من غربه فأعيدوا عهد أنس قد مضى تعتقوا عبدكم من كربه ٭٭٭ واتقوا الله وأحيوا مغرماً يتلاشى نفساً في نفس حبس القلب عليكم كرما أفترضون عفاء الحبس «ب» في فناء عريض، سمي نادي الشعر، بالمجمع الثقافي بمدينة الفاشر عند منعرج لوى السنوات التسعين من القرن الماضي عند شهقتها الأولى، هزيم الرعد يدوي في الأفق الشرقي البعيد، والبروق تتسابق في فجاج تلك الظلمة التي تسطو على وجه السماء.. كانت فاشر السلطان متدثرة يومئذٍ بآخر عباءة من زاهي خيوط النور التي تنسجها على مدى قرون، قبل ان تضمحل وتنحسر بعد ذاك بحين، المدينة متخمة يومها بالإبداع، تحتضن المبدعين، يأوي إليها الناس من كل فج عميق، من أصقاع السودان المختلفة، ومن أهل دارفور ورموز الفاشر وأعلامها وجبالها الرواسخ، في مسجدها الكبير دروس الفقه والتفسير، وفي سوقها العتيق أسماء ولافتات وتواريخ وسنوات مضين لم يزلن ينبضن بالتجار الشوام والأغاريق والأرمن والليبيين وأولاد البحر وأولاد البلد، في الحواري والأزقة والطرقات وميض مدينة تملأ خياشيمها بتيه مستحق، ويشتبه عند المارة والسابلة، عندما يرخي الليل سدوله، ما توحيه صور السوق القديم الباهتة واللواري الحزانى والمتاجر المغلقة، بقصيدة السوق القديم للشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب «في السوق القديم »: الليل والسوق القديم خفتت به الأصوات إلا غمغمات العابرين وخطى .. الغريب وما تبثّ الريح من نغم حزين في ذلك الليل البهيم الليل والسوق القديم وغمغمات العابرين والنور تعصره المصابيح الحزانى في شحوب مثل الضباب على الطريق من كل حانوت عتيق بين الوجوه الشاحبات كأنّه نغم يذوب في ذلك السوق القديم «ت» كنا في فناء المجمع الثقافي بالفاشر، نجلس إلى مجموعة صغيرة جداً من شعراء المدينة: «الجندي جعفر، سليمان الطيناوي، خميس مناوي، أستاذة نفيسة.. وغيرهم» ونحن في زيارة عجلى للمدينة.. وهب الله جلساءنا قبسات وهبات من روح الشعر الجيد الرصين.. ظلوا في ذلك الغناء الذي تتوامض فيه نيران السحاب.. يدلقون قصيدهم والمدينة صامتة إلا من أنفاس الشعر الحرَّى وهدير الرعد. فجأة.. شق عتمة الليل البهيم، شاب يرتدي جلباباً غامق اللون، وجلس على دكة قريبة، كشبح أسطوري غريب، لم يعره أحد انتباهاً واستمع لساعة مطرقاً كراهب يتعبد في صومعته، أطربته قصيدة لخميس أركو مناوي أستاذ اللغة الفرنسية في دارفور الثانوية، اسمها «بنت باريس» .. التي يخاطب فيها فتاة باريسية سخرت منه قابلها في العاصمة الفرنسية إبان دراسته هناك في ثمانينيات القرن الماضي على مقربة من ميدان الكونكورد الباريسي العجيب.. وأعجب ذلك الجالس على الدكة بيتاً منها: أتيت نضواً بساط الريح يحملني من بلدةٍ بَرة من أمة شوسِ.. تمايل الجالس طرباً، وبعد انتهاء خميس من قصيدته والجمع الصغير يتدارس ويمارس نقداً عفوياً بسيطاً، طلب الشاب الجالس فرصة لإلقاء قصيد.. وسط دهشة الحضور، لأن صوته أتى عميقاً نابعاً من أغوار صدره وظلامه الغارق فيه، ربما يكون صوته أقرب لهمهمة من بطن وادٍ مهجور. «ث» من مكانه ذاك، أبان في جملة سريعة وحاسمة، أنه من بادية من بوادي الرحل بشمال دارفور، يعيش هناك لا يطرق أبواب المدينة إلا لماماً.. ولا يعرف من تصنع المدائن ورهقها إلا نزراً يسيراً. قرأ علينا قصائد من «فسفور» كما يقول الأخ الأستاذ عبد الإله أبو سن، صوته في إلقائه كان عميقاً ورناناً ومحتشد الانفعالات، شعره الذي قرأه كالنخلة طويل الذؤابات والخيال، فيه طباع البادية كلها، حياتها المترعة، قسوة ظروفها وصعابها وشدتها وشعابها، خيالها الدافق وخصائص أهلها وأخلاقها وخص، في القصيدة صخب المراحيل و «مراحات» الإبل، وصهيل الخيل فيها وحداء رعاة الإبل وغناء البوادي وشدو الصبايا وشقشقة العصافير وقوة الجبال وصفير الفلوات.. جاءت صورة غير مرئية لقصيدة الشاعر المغاربي «عبد القادر مكاريا»: فرحة القلب المدثر بين شرنقة الكتابة والرؤى وحي الأغاني للرياحين التي تسمو إلى السحب المحمل غيثها بالعشب والكلمات مرت على صمت القصيدة أيقظت همس الصبا فتعانقت أحلى الحكايات القديمة أوقفت نبض الحياة لو يمكن الآن ما كان يمكن أن يكون كل احتمالات العبور تكسرت مرت على صمت القصيدة والقصيدة باب معراج الحنين إلى الأحبة والأحبة ما تبقى من أريج العمر في نفق السنين وما تساقط في محطات الطريق!! «ج» تحول الجميع إلى إحساس واحد، كلهم أذان فقط.. حتى لا صوت يخرج من الرئتين بالنفس، صمت مطبق وصمتت حتى الرعود، واستحت البروق أن تلتمع وتومض، والشاب الذي انضم لنادي الشعر، ماضٍ في قراءة قصائده العصماء، لا حديث ولا تعليقات، فقد كانت صوره الشعرية مدهشة وباذخة الخيال، دقيق في تجسيد الصور والمشاهد والمرائي.. ينقلك إلى أجواء من الإيقاع الساحر والطرب الطفولي وسراديب الحياة الغامضة، خاصة أن الصوت نابع من أعماق متروية من أصولها وجذورها وحياتها. كأنه يجمع باديته على أنقاض اللحن والغمام.. أو يحيك عباءة تلبسها الريح التي مشت بلا خطام.. عين تؤاخي تيهها في لحظة الفجر القديم حيث الرمل ينشأ هازياً ببياضه حيث الأشعة راسيات والمدى غمرّ يحرره الكلام عيني تردد ما تشاء خطوط من جاءوا ومن تركوا بقايا الريح ساهرة بجمرتها على وطن توزع بين أنقاض الغمام «خ» لكن الريح المجنونة كما قال الفيتوري ، عادت من جديد، تدوي مثل الطاحونة، وهاجت البروق من جديد، وعلا هدير الرعود، وفتحت بوابات السماء بالمطر، والمدينة غارقة في غضب السحاب والرياح، بيوتها تعصفها عواصف هائجة، ولمع البرق كشحنة من غضب تنفثها الرعود الهادرة، ولم تك لحظات إلا والمطر يملأ المكان والرياح تعصف بقوة، جرى كل منا في اتجاه.. وجمعنا الكراسي على عجل وانسرب الشاعر في لهفة المطر والرياح.. وابتلعته ظلمة الليل ولم نجده.. من تلك الليلة ومن بعد.. ورغم السؤال الذي طال لسنوات.. نحن بلا إجابة ولا نعرف أين ذهب؟