السلام مفردة بارزة في عنوان منبر السلام العادل، ولذلك كان من المتوقع أن يحوز مبدأ السلام وفكرته على نصيب وافر من الشرح والتوضيح. يقرر النظام الأساس للحزب: «كما يدعو إلى العمل الجاد لتحقيق التوافق السياسي والثقافي والاجتماعي لأهل السودان بما يحقق السلام العادل المستدام في السودان في إطار مشروع النهضة الوطنية الشاملة». ولكن ما يشار إليه ههنا مقصد وهدف ولكن طريق الوصول إلى ذلك المقصد يبقى موازياً في الأهمية للمقصد نفسه. فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. كيف يمكن الوصول إلى التوافق السياسي والثقافي والاجتماعي إلا عن طريق الحوار والتفاوض؟ ولكن أدبيات المنبر جميعاً تشي وتشير إلى موقف حاد ناقدٍ للحوار والتفاوض أو على الأقل الحوار والتفاوض الذي أُنجز حتى اللحظة الراهنة. فهو كله في ناظر المنبر والمعتلون له تنازل وإغضاء أو ضعف واستخذاء. وأصبح لأهل المنبر حساسية فائقة لمصطلحات مثل التنوع وإدارة التنوع على الرغم من أن الإشارة لهذا المعنى لا تغيب عن النظام الأساس للمنبر إذ يقرر النظام الأساس «تحقيق الوحدة الوطنية ولاءً لله وتصافياً وسلاماً بين أهل السودان كافة وتآلفاً يثريه التباين العرقي والثقافي وتعاوناً على توزيع السلطة والثروة بعدالة توطيداً لروح الوفاق والتوحد إبقاءً لصراعات حمية العنصر أو الطائفة أو الحزب أو الجهة أو الصلة بما يحقق ويقيم سلاماً عادلاً بين مختلف مكونات المجتمع السوداني.» فإن كان ذلك كذلك فلماذا الاعتراض القوي على الجهود المبذولة للالتقاء مع الآخرين؟ سواء كانوا ملة أخرى أو عنصراً آخر أو جهة أخرى لماذا هذه الحساسية المفرطة من الحديث عن التنوع واعتبار الحديث عن اعتبار التنوع ومراعاته وحسن إدارته نوعاً من أنواع ما يسميه المنبر وأصحابه «الدغمسة». هذه الدغمسة ليست إلا محاولة للتوصل مع الفرقاء جميعاً إلى كلمة سواء. ولكنها كلمة يوحّد فيها الله ويُحكم فيها بشريعته السمحاء. وملاحظة على عبارة المنبر فنحن لا نتحدث عن التباين قط لأن مفردة التباين تعني شيئاً واحداً وهو التباعد. فالبين هو البعد والتباين هو التباعد ونحن لا نؤمن بتباعد بين أعراق السودان وثقافاته بل ولا نؤمن بتباعد بين مذاهب أهل السودان ومللهم. فالإسلام الذي نؤمن به له الهيمنة على الملل الأخرى هيمنة سببها حقيقته ونسخه للملل الإبراهيمية السابقة له لا بمعنى إلغائها بل بمعنى إثبات الصحيح والصواب والحق المحقِّق للخير وللبر منها وإلغائه ما ناقض معاني الحق والخير والبر. ولئن ظل بعض أهل الملل الأخرى يدينون بما لا نراه حقاً فإن العهد بينهم وبيننا المجادلة بالتي أحسن حتى نردهم إلى الحق الذي به نعتقد. والميثاق المعقود بيننا وبينهم أن لهم ما لنا وعليهم ما علينا إن لم يقاتلونا في الدين ولم يظاهروا علينا أحداً سواهم يُقاتلنا بل إنما نحن مأمورون بإسداء البر إليهم وإقامة القسط بيننا وبينهم. فكيف يقال لمن يراعي كل ذلك إنه يدغمس الشريعة. إن الذين يدغمسون الشريعة هم أولئك الذين يجعلون أمر الدين مفاخرة لا محاورة ومنازلة لا مجادلة وسعي للإقصاء لا سعي للاستدناء والتقريب. ولا أزال أتنشق شيئاً من هذه المعاني في ثنايا النظام الأساس للمنبر يقول المنبر: «يعمل الحزب على تأمين وترسيخ التداول السلمي للسلطة وكفالة الحريات العامة وخاصة الحريات السياسية وحرية الصحافة والتعبير وفق المبادئ الديمقراطية العامة مع إعمال قيم الشورى والعدل والمساواة في الحقوق والواجبات أمام القانون وبما لا يتعارض مع شريعة الله سبحانه وتعالى «ويا سبحان الله هل يُتصور أن يتعارض إعمال قيم الشورى والعدل والمساواة في الحقوق والواجبات أمام القانون مع شريعة الله سبحانه وتعالى. فكأن مشرع النظام الأساس يريد أن يقول إن ما استقر في أفهامنا من قيم الشورى والعدل والمساواة قد لا يكون مطابقاً لشريعة الله. فهل يستوي المسلم وغير المسلم المسالم في الحقوق والواجبات سواءً بسواء؟ فإن قبل المنبر ذلك فلماذا لا يشار إلى أن المواطنة هي أساس نيل الحقوق واداء الواجبات. لا يقال ذلك لأن بعض أتباع المنبر يعتبرون أن إثبات مثل هذا النص هو «باب من أبواب الدغمسة» أو هو كتاحة ترابية فبعضهم يقول «إن مصلطلحات الديمقرطية والمواطنة أصبحت فيروسات ضربت الفكر الدعوي» ويا للعجب أن بعض هذه الفيروسات قارّة في النظام الأساس للمنبر وبعضها يُستحى منه».ولن نرد على هؤلاء الذين يعتبرون أن الحديث عن المواطنة شنشنة علمانية. وكأنهم لم يقرأوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم في صحيفة المدينة «من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة» والأسوة هي تساوي الحال بالحال «وان بينهم النصر على من دهم يثرب وأن ليهود الأوس مواليهم وأنفسهم لأهل هذه الصحيفة البر المحض من أهل هذه الصحيفة» «وأن لليهود دينهم وللمسلمين دينهم وأنفسهم إلا من ظلم». إن صحيفة مدينة رسول الله هي القدوة في تأسيس مجتمع الحقوق والواجبات المتساوية مع اختلاف الملل والأديان. ونصوصها تنشئ أمة ودولة من أهل المدينة وتقيم حلفاً للنصرة بينهم. وتجعل للجميع حرية الاعتقاد الديني وتجعل شأنهم أسوة في عصمة الدماء والأعراض والحقوق وفي البر المحض «إلا من ظلم أو أثم فإن فعل فلا يكسب كاسب إلا على نفسه». كيف لا يكون الحال كذلك والإسلام هو الذى أجاز إنشاء أسرة من زوج مسلم وزوجة غير مسلمة وجعلها تنشأ وتستمر على الالفة والمودة والسكن. ولكن مبدأ التساوي في الحقوق وواجبات المواطنة يستخفي في عبارات النظام الأساس للمنبر «منبر السلام العادل» ربما كي لا يغضب الذين يرون المواطنة والديمقراطية فيروسات ضربت الفكر الدعوي وبعض الناس لا يكاد يفرِّق بين الدعوة والدعوى. وكيف يكون التساوي إذا كان بعض المواطنين لا يحق لهم ممارسة حقوق يمارسها مواطنون آخرون؟ ونسوق مثالاً قد يغضب فئاماً من أتباع المنبر ويثير ثائرتهم علينا فبعض هؤلاء يريد مَحْقاً للدغمسة أن يُكتب في نص الدستور الجديد أن شرط الترشيح للرئاسة أن تكون مسلماً، وأضاف بعضهم ذكراً، وهكذا نرى أن جميع المواطنين من غير المسلمين لا يجوز لهم الترشح للرئاسة وجميع المواطنات لا يجوز لهن أن يتقدمن للترشح للرئاسة. فهاتان طائفتان هما أكثر من نصف المواطنين لا يحق لهم التمتع بحق الترشح لأي منصب كان يشمل رئاسة الدولة وهو الأمر المعمول به فى الدستور الحالي. لماذا يحرمونه ويجرمونه على حين يعلم الداني والقاصي أن فرص غير المسلم للحصول على المنصب الرئاسي مثل فرص حصول مسلم على الرئاسة في الولاياتالمتحدةالأمريكية أو أوربا. ولكنها الوصاية على جمهور المسلمين والاعتقاد السيء في تمسك جمهور المؤمنين بالدين الذي به يدينون أو المذهب الذي إليه يحتكمون وهؤلاء الذي يتحدثون عن منع رئاسة المرأة على سبيل المثال لم يبذلوا الجهد في توضيح ذلك وإبانته لجمهور المسلمين ليتبعوا فقههم على بصيرة فالاتباع الحق لا يكون إلا على بصيرة. والقائلون بوجوب إنهاء الدغمسة يتحدثون عن أن نسبة المسلمين قد بلغت 97% فلا مبرر للاستخفاء إذاً. وذلك لأنهم افترضوا أن الصياغات الدستورية التي راعت إتاحة الفرصة كاملة لغير المسلمين للتمتع بكافة الحقوق الدستورية المتاحة للمسلم إنما هي من باب المراعاة والمجاملة وأنها إنما تستند إلى فقه الدغمسة لا فقه صيانة كرامة الإنسان. ولو اعتقدنا أن ذلك كذلك لوجب علينا الحكم على أنفسنا بالفسق لا بالدغمسة فحسب. فإن المداهنة في الدين ضربٌ من النفاق وهو النفاق الأصغر، نفاق العمل، ولكنه نفاق في كل الأحوال. ولكننا نعتقد أنه لو لم يبق إلا غير مسلم واحد في بلادنا لوجب علينا مراعاة مبدأ سوائية الحقوق والواجبات. فلا يُكتب نص في الدستور يخرق مبدأ المساواة. ثم إن المسلمين من بعد ذلك بالخيار فى من يولون ومن يعزلون. وكذلك غير المسلمين بالخيار فيما يختارون وما يتركون فهل يؤمن منبر السلام العادل بما نؤمن به أم أن السوائية في حقوق المواطنة وواجباتها ضرب من ضروب الدغمسة. ودعونا نقرأ نصاً من نصوص النظام الأساس الذي يقرر: «مع الإقرار بأن السودان بلد متعدد الثقافات والأعراق والديانات واللغات يؤكد الحزب على حقيقة أن الدين الإسلامي هو دين الأغلبية وأن اللغة العربية هي اللغة القومية مع التأكيد على عدم الحجر أو التضييق على أصحاب الديانات واللغات الأخرى كما تنص على ذلك الأعراف الديمقراطية المرعية»، ولا مشاحة فإن الإسلام هو دين السواد الأعظم من أهل السودان وأن العربية تكاد تكاد تكون لغة جميع أهل السودان ولكن النص يكتفي بعدم التضييق والحجر في شأن أصحاب الديانات واللغات الأخرى وشتان بين ما أُثبت بالنفي وما أُثبت بالإيجاب. لماذا لا يقال كما يقال في الدستور الحالي إن الجميع حُر في اعتقاده وفي مسعاه لتطوير لغته. فالحرية هي الأصل والحرية تعني أكثر من نفي التضييق والحجْر. الحرية تعني تمكين الإنسان من المسعى في الاتجاه الذي يراه صحيحاً. وقد أشار الإمام ابن تيمية إلى هذا المعنى عندما ألزم زوج الكتابية بتمكينها وتأمينها إذ تسعى لأداء صلاتها في الكنيسة. فأين نحن من هذا الفهم المستضيء المضيء لشريعة الله العادلة السمحاء بل أين منه نفاة الدغمسة والمحاربين لفيروسات الفكر الجديد.