ثم يقودنا السياق القرآني المحكم المنضبط إلى نوع آخر من التقييد وهو تقييد بالوصف وبالإضافة 3/ قال تعالى في سورة المجادلة: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ». يبدو اتّساق القرآن في إيراد المعاني وضبطها في قوله هنا «يوادّون من حادّ الله» ناهياً عن ذلك، وفي قوله تعالى «لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» وقوله تعالى «وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ...» إلى آخر الآيات. وباختصار شديد نلخص المعنى في الآيات هذه كلها في قاعدة أصولية تقول «لا مواددة مع المحاددة» محاددة الله تبطل المودة ليس بين أفراد المجتمع.. بل بين أفراد الأسرة الواحدة.فالذين يتأدبون بهذا الأدب ويلتزمون هذا الحكم يصفهم السياق القرآني بأنهم حزب الله ويأتي التعقيب بأن حزب الله هم المفلحون.. ومن لم يتأدب بهذا الأدب ولم يلتزم هذا الحكم فليس من حزب الله بل هو من حزب آخر.. من حزب الشيطان.. لا معنى إلا هذا.. 4/ ويأتي مزيد من الإيضاح لهذا المعنى.. وهو معنى «الفسطاطان» فسطاط أهل الإيمان.. وفسطاط أهل الكفر.. فسطاط حزب الرحمن.. وفسطاط حزب الشيطان ليس بينهما فسطاط ثالث. قال تعالى في سورة فاطر: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ» فالشيطان عدو الذين آمنوا فيجب عليهم أن يتّخذوه عدواً ولا يجوز أن يتخذوه ولياً ولا يكونوا في حزبه لأنه لا يدعوهم إلا إلى السعير. ومن ليس في حزب الرحمن فهو في حزب الشيطان.. وقاعدة حزب الله أن الولاء يكون لله وحده لا لرئيس أو زعيم أو قريب من أب أو أم أو أخ أو عشيرة. أما الدعوة إلى الحزبية وترتيب الناس في دواوين كل أهل حزب في ديوان واحد.. ويواجهون غيرهم من الأحزاب كلٌّ يدعو إلى ما يراه وما يستحسنه دون ضابط من كتاب أو سنة.. بل إن مجرد ترتيب الديوان الحزبي يولِّد في النفس حب الانتصار والانحياز للاختيار الحزبي والفرح به والانتصار له على قاعدة «حبُّك الشيءَ يعمي ويصم». 5/ ويقول الله تعالى في سورة الكهف في حكاية الفتية من أصحاب الكهف الذين آمنوا بربِّهم وخالفوا قومهم فأتاهم الله في الكهف: (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا). يعني أن قولهم كما يقول الطبري في تفسيره انقسموا فريقين كلٌّ يقول بقول يخالف الثاني.. ووصفهم الله سبحانه وتعالى بالحزبين ليبيِّن قدر ومقدار تمسك كل واحد منهم بقوله، وزاد الطبري أن الحزبين كانا جميعاً كافرَين وقيل كان أحدهما كافراً والآخر مسلماً.. وأياً كان الأمر فالحزب يعني التباعد والتفرق والتناحر والانتصار للذات في الغالب لا للحق. 6/ ووردت كلمة الأحزاب بالجمع في الآية رقم «17» في سورة هود (وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ). فالأحزاب هنا في مقابلة الذين يؤمنون.. والقرآن لم يستخدم مفردة الأحزاب بالجمع لأهل الإيمان قط بل استخدمها مراراً وتكراراً لأهل الكفر وأعداء ملة الإسلام.. قال في سورة الرعد: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ). والآية دالة على معنى التحزب وأن إنكار بعض ما أنزل الله وإن لم يكن كله ودل ذلك أن التحزُّب ربما كان في أهل الإسلام.. وهو على كل حال مذموم مقبوح، وقال في سورة مريم سبحانه وتعالى مبيناً أمر عيسى عليه السلام في عدة آيات ثم عقّب في الآية «37»: (فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ). وقال في سورة الأحزاب وهي سورة قصد بها الذين تجمعوا لحرب المسلمين في غزوة الخندق التي سُمِّيت بغزوة الأحزاب وهم قريش وغطفان ومن شايعهم من العرب. (يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ) ويفرق الله سبحانه وتعالى في التسمية بين أهل الإيمان وأهل الكفر فيقول: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ). وقال تعالى في سورة «ص» (جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الأَحْزَابِ) الآية «11». (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ) الآية «12». (وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ) الآية «13». (إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ) الآية «14». وقال تعالى في سورة غافر (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ). وقال تعالى في ذات السورة في الآية «30» (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ) ويبين في الآية التي تلي ذلك أنهم: (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ). هذا الاطّراد يدلُّ دلالة واضحة على ذمّ الحزبية وأن الحزبية لا تجوز بين أهل الإسلام لا مقنّنة ولا غير مقننة، والتحزب شبيه بحال أهل الكفر الذين ينتصرون لذواتهم ولأطماعهم ومصالحهم، وأما أهل الإسلام فالولاء والبراء والحرب والسلام والمواددة والمحاددة والحب والبغض والمناصرة والمعاداة كل ذلك لا يكون إلا في الله ولا ينزل إلا على حكم الله لا على حكم النفس ولا حكم الآل والقرابة ولا على حكم الهوى لا في الدين ولا في السياسة، وينبغي أن يستيقظ الساسة السودانيون من أهل الإيمان لأن أهل الشينات المؤتفكة «الذين هم أهلها» ويجب أن ينتفضوا وينقلبوا على شيطان السياسة السودانية الذي أنتج لهم قانون التوالي وأسس لحزب الشيطان بل أحزاب الشيطان.. قال تعالى في سورة الزخرف: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ. فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ«64 65». لقد جاءت الإنقاذ وألّفت الأحزاب.. وقلنا إن الإنقاذ لها رؤية.. ثم جاء شيطان السياسة فأنتج فكرة المؤتمر الوطني.. وقال إنه وعاء جامع يجمع كل أهل السودان لا يختلف فيه اثنان حول التوجه العام.. ولكنه عاد ونكص وأنتج قانون التوالي وقانون المواطنة. واضطر الناس إلى الأخذ به أخذاً بالضرورة مثل أكل الميتة.. لأن عدم الأخذ به في ضوء الطغيان الذي كان يمثله ذلكم الشخص ربما أدى إلى وقف الدعوة ووقف الحياة كلها.. «مَآ أُرِيكُمْ إِلاّ مَآ أَرَىَ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرّشَادِ» لقد قال الإمام حسن البنا عندما أسّس جماعة الإخوان المسلمين: «نحن وضع شاذ لمعالجة وضع شاذ». وهو مبني على فقه الضرورة. ولكن ضرورة التوالي لا تنتهي عند حد وأصبح التوالي فلسفةً ومنهجَ حكمٍ حتى بعد أن أطاح الصراع شيطانه.. والآن المؤتمر الوطني ومنبر السلام العادل في مواجهة الفقه القرآني يجب أن يكونوا فعلاً وضعاً شاذاً لمعالجة وضع شاذ..