نحن نكتب.. ونكتب.. ونكتب.. وهم لا يقرأون.. وكلَّما أصررْنا على الكتابة.. أصرّوا على عدم القراءة وأحسبُهم والله أعلم لا يقرأون لنا ولا لغيرنا ولكنهم مع ذلك ربما جمعونا وحشدونا في قاعة من القاعات.. الزبير.. أو الشهيد.. أو الشارقة.. ولا يفوتهم أن يُسمعونا من حلو حديثهم ومن مستلطَف عباراتهم ما تُسرُّ به أنفسنا وتنشرح له صدورنا من أمثال.. «نصف رأيك عند أخيك..» وهم يقولون لنا هذه العبارة في الوقت الذي نعلم ويعلمون هم أنهم لم يجمعونا ولم يحشدونا إلا بغرض تنويرنا بالحدث بعد وقوعه.. من المستحيل أن يجمعونا قبل الحدث أو قبل جولة المفاوضات ليستنيروا بآرائنا أو يطمئنوا منا إلى خططهم واختياراتهم وأسانيدهم.. وبالأمس حشدت ولاية الخرطوم عن طريق مجلس الدعوة الأئمة والدعاة والعلماء لتنويرهم عن جولة مفاوضات الحريات الأربع بعد أن وقّعوا عليها بالأحرف الأولى وكان صدر المجلس للأخ إدريس محمد عبد القادر الذي كان هو رئيس الوفد المفاوض.. وبالرغم من أني أجد نفسي مضطراً للاستدراك عليه في عامة ما ذهب إليه من أقوال وشروح وتحليلات إلا أنني أقول وبصراحة إنه أكثر توازناً من غيره من رصفائه وأقرانه في المفاوضات.. فهو الوحيد تقريباً الذي لم تؤخذ عليه عبارة تُعد من باب المخالفات الشرعية كالتي صدرت من أمين حسن عمر وسيد الخطيب وحسن مكي ومن قبل من كبيرهم الترابي حيث عبّروا جميعاً عن رضاهم التام وتسليمهم بما تأتي به صناديق الاقتراع من نتائج.. حتى ولو جاءت بنصراني إلى رئاسة الجمهورية.. الأخ إدريس عافاه الله من هذا الشطط.. ولا أظنني سأصاب بالدهشة إذا قيل لي إن هذه من الكلمات التي يهوي بها صاحبُها سبعين خريفاً في جهنم والعياذ بالله.. وبالرغم من شهادتي هذه للأخ إدريس إلا أن كثيراً مما قاله مستدرَك عليه فيه خاصة في مباهاته بأنهم يدعون العلماء ويشاورونهم وعدَّد نفرًا من العلماء ادّعى أنهم دُعوا واستُشيروا في نيفاشا وأنهم وافقوا عليها وباركوها.. وعدّ منهم جماعة من الأحياء وجماعة من الأموات رحم الله الجميع.. والأمر بخلاف ذلك تمامًا.. والأحياء يشهدون على ما أقول.. فالذين دُعوا إنما دُعوا للمراسيم الاحتقالية بعد الاتفاق على كل البروتوكولات والبنود، وكان ذلك قبل الاحتفال بالتوقيع بشهر أو شهرين على ما أذكر.. وكنتُ فيمن قُدِّمت له الدعوة عبر هيئة علماء السودان.. ولكنني اعتذرتُ.. وكنتُ قد شهدتُ لقاءً في منزل النائب الأول آنذاك حضره لفيف من العلماء والدعاة.. وكان ذلك قبيل سفر الدعاة والعلماء بأيام قلائل.. وكانت معالم نيفاشا قد وضحت تماماً ولم يعد هناك شيء مما يمكن أن يُستشار فيه العلماء. ولأدلِّل على صدقية هذه الرواية سوف أحكي ما قلتُه في حضرة الأخ النائب الأول.. وكنت أعلِّق على اختيار جون قرنق نائبًا أول للرئيس عمر البشير.. وذكّرت بقصة أوباسانجو مع الرئيس النيجيري مرتضى رامات محمد الذي اغتاله بي.اس.دسكا ذات جمعة في لاغوس العاصمة.. وتوج بعدها أوباسانجو رئيساً للجمهورية.. وكان مرتضى من الأغلبية المسلمة ومن قبيلة الهوسا ذات النفوذ والقوة والمنعة في نيجيريا.. وكان أوباسانجو من الأقلية (المسيحية) ومن قبيلة البوريا وهي قبيلة صغيرة إذا قورنت بالهوسا أو قبائل وسط وشرق نيجيريا مثل التيف والآيبو أو قبائل الشمال النيجيري وهي قبائل السيادة والزعامة الروحية في سائر نيجيريا.. عبّرت بهذه الحكاية عن خوفي من تكرار السيناريو في السودان وأن نصبح يومًا فنجد جون قرنق رئيساً للسودان.. ولما مررتُ بالأخ النائب الأول همس في أذني مداعبًا: (والله نحن ما قايلنكم خوافين كده). هذا يدل دلالة واضحة على أن العلماء ما كانوا يُستشارون إنما كانوا يؤتى بهم لاستكمال الإطار وتجميل الصورة وتزيينها.. يعني ديكور.. ولو كان الأمر خلاف ذلك لكونت اللجان وحددت القضايا.. وعقدت اللقاءات والسمنارات.. وجيء بالمراجع وأُعدت الأوراق ثم اتُّخذت القرارات والتوصيات وزُوِّد بها المفاوضون واستصحبوا معهم عدداً من المستشارين من أهل الفقه الشرعي ليكونوا جزءًا لا يتجزأ من الوفود المفاوضة. وهذا هو بالضبط ما حدث في الاتفاق الإطاري الذي حشد له الأخ إدريس أئمة مساجد الولاية لتنويرهم وإقناعهم بمنطق الاتفاق وجدواه وعدم مخالفته للشريعة.. ولكن الأخ إدريس يُدخل نفسه ويُدخل القاعة معه في سرد طويل لأحداث مرّ عليها حوالى عشرين عامًا أو أكثر من لدن محاولة اغتيال حسني مبارك ليدلل بذلك على أن السودان مستهدَف من القوى الأجنبية بسبب الشريعة.. وكان سرداً طويلاً ولا طائل تحته ولا متعلق له بقضية الاتفاق الإطاري والحريات الأربع.. وذلك لأن الإنقاذ اعتراها في هذه السنوات من التغيير والتبديل ما جعلها تبدو وكأنها شيء آخر غير الإنقاذ والأخ إدريس هداه الله وألهمه الصواب يُصرُّ على أن السودان يحكم بالشريعة.. مع أن الأخ إدريس ينبغي له كمفاوض بهذه الدرجة.. وكأحد الدعاة وعضو في الحركة الإسلامية من أيام الجبهة الإسلامية القومية كان ينبغي له أن يعلم أن تضييع الشريعة بدأ بدستور «1998م» الذي قرر مبدأ المواطنة أساسًا لكل الحقوق والواجبات.. وألغى شرط الإسلام عن رئيس الجمهورية في المادة «37» وسبقتها المادة 19 في المبادئ الموجِّهة التي قررت أن المبادئ الموجهة يهتدي بها المشرِّع وليست حدوداً يضبطها القضاء الدستوري.. ثم جاء دستور «2005م» المؤقت الذي كرّس مبدأ المواطنة بل وأعطى الولايات في الشمال الحق في إصدار التشريعات التي تراها أي أنه أعطاها الحق في إقرار الشريعة أو إلغائها. كل ذلك والأخ إدريس لم يفتح فمه بكلمة عن الحريات ولا عن الاتفاق الإطاري.. والسرد الذي جاء به الأخ إدريس يوحي لك أن القصة كلها طرأت في أديس.. وأنها لم ترد في الخرطوم قبل سفر الوفد وأنها إلهام أُلهمه الوفد بعد تعثر المفاوضات، والدليل على ذلك أن الوالي نفسه علّق في آخر الندوة بأنهم اجتمعوا في الولاية مع الوفد وناقشوه في الحريات.. وأنهم قالوا له كلامًا أشد وأقسى مما سمعه من الأئمة والدعاة في يومه هذا.. وبعد عراك شديد أُجيزت الحريات أو الاتفاق الإطاري وكذلك عُرض على مجلس الوزراء وناقش فيه الوفد ثم أجازه.. أي أن الحكاية كلها لا دولة ولا شريعة ولايحزنون وأنها جاءت on the SP of the moment أي من وحي اللحظة. أخي إدريس أما تتقون الله في هذه الأمة! أما تخشون سؤاله وحسابه وناره وسعيره!! الأخ إدريس حكى أمام جمع حاشد من الأئمة والدعاة من الذين يصدق فيهم ما وصف به نفسه حيث قال «لست بالخب ولا الخب يخدعني» وذلك في يوم الأربعاء مساء 21/3/2012م في قاعة الشارقة أن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود بعد أن اختلفوا حول ما طلبته الحركة من إقرار الوفد السوداني بوجود عشرات المسترقّين من الجنوبيين في الشمال ورفض الوفد.. ثم طلبت تعديل الحدود ليشمل مناطق جديدة تُضاف إلى مساحة الجنوب.. ثم طالبت بضم أبيي إلى الجنوب والاعتراف بها أرضًا جنوبية.. وأخيرًا فشل الاتفاق حول البترول.. واتجه الوفد الشمالي إلى المطار أو كاد ثم حدثت المعجزة.. ولم يحدثنا الأخ إدريس عن (المختار) The chosen one الذي حدثت على يديه المعجزة.. المهم أن فكرة الحريات الأربع جاءت لإنقاذ الموقف.. (ولتغيير المناخ من الاختلاف) (وجاءت لتحسين المناخ)، (وندع أمور الخلاف إلى مابعد) هذه بعض عبارات الأخ إدريس بالحرف.. ولا أدري من الذي سبق باقتراح هذا المخرج.. وبالتأكيد هو مخرج زلق ولزج وكريه...