كانت أول مرة تطأ فيها قدماي أرض الخرطوم عاصمة البلاد وأشاهد بعيني العاصمة المثلثة كان عام 1957 وفي ذلك الوقت كان السفر بالبيوت «القطار» والكلام «بالخيوط» كما ذكر الحكيم فرح ود تكتوك حيث كان القطار منتظمًا في سفرياته بين العاصمة ومدن البلاد الأخرى واو، نيالاً، كوستي، سنار ود مدني ثم الخرطوم.. بورتسودان، هيا، كسلا، القضارف، مدني، الخرطوم واخيراً حلفا، أبو حمد وهنا يلتقي خط قطار كريمة، عطبرة، الخرطوم.. وقطار كريمة كان يتفرع من عطبرة إلى الخرطوم، ومن عطبرة إلى بورتسودان.. وكان غالب سفر أهل الشمالية الذين ينتقلون بالباخرة من كرمة، دنقلا، الدبة، كورتي، مروي فكريمة يلتقون بالقطار في محطة كريمة ولهم عربتان في الأسبوع يحشرون فيهما حشراً حتى عطبرة.. حيث تربط العربتان إما في قطار الخرطومبورتسودان وإما في قطار بضاعة قادم من الخرطوم.. بمعنى أن لا قطار خاص بهم وكانوا قانعين بقسمتهم راضين عنها.. وكان نصيبنا في ذلك القطار الذي لا يسع الجميع أن نسطح «أي نركب على سطح عربة القطار في مغامرة عظيمة لا يؤديها إلا الشباب الذي شيمته التحديات».. العاصمة كانت ملتقى أهل السودان وملتقى شرايين المواصلات.. وكانت مدن العاصمة الثلاث تتمتع بإدارات منتظمة من الضباط الإداريين وتلك تجربة عريقة وطويلة تستحق الدراسة والتمعن والمقارنة بين أنظمة الإدارة المختلفة وهي ما تعرف بالإدارة المحلية.. الخرطوم كانت مدينة متوسطة المساحة والسكان والمتحركات لم يكن هناك مجال لكي يتدفق المواطنون نحوها بالصورة التي نعيشها في السنوات الأخيرة.. فالخرطوم التي كان على رأس إدارتها ضابط إداري «ضابط بلدية» كانت تقع ما بين شارع النيل شمالاً والسكة الحديدية جنوباً.. بري والجريف شرقاً.. المقرن غرباً.. ثم جاءت بقية المناطق فيما بعد.. يعني الخرطوم اثنين وثلاثة والسجانة والديوم الغربية «الحلة والقوز والسجانة.. الديوم الشرقية.. حي الزهوري وبيوت الديوم.. والامتداد والصحافة وجبرة والعشش والعشرة».. كانت العربات قليلة والباصات تنقل الناس بقرش وقرشين وسوق الخضار واللحمة والسمك في ميدان الأممالمتحدة.. وشارع الجمهورية كان يسمى بالسوق الأفرنجي.. وكانت هناك محلات مرموقة .. بارزة.. نظيفة.. وكان السوق الأفرنجي يعني وجه الخرطوم أو واجهة السودان.. كانت المحلات تكثف من الإضاءة والتميز في أنواع البضاعة مثل بنجامين وأقمشة الصوف المتميزة.. الأمر الذي دعا البعض أن يميز الخرطوم بالليل عنها بالنهار.. وكانت المحطة الوسطى، والترماي، وبصات الحلفايا المميزة والتليفونات المثبتة في الشوارع.. والنظافة التي كان يحافظ عليها جميع الناس وبالأمس وبعد تلك المسيرة الطويلة من مسيرة الخرطوم العاصمة الحضارية لبلادنا تجمع عدد من فئات أهل الخرطوم والمؤسسات العاملة فيها مثل فئة التجار وأصحاب الأكشاك.. والمصارف وسكان الخرطوم.. التقوا في ميدان أبو جنزير الذي كان حتى وقت قريب مكتظاً بالأكشاك والحافلات والسيارات الصغيرة والخلق الذي عندما تراه تظن أن القيامة قامت.. التقى والي الخرطوم بدعوة من معتمد الخرطوم من خلال لجنة لتطوير وسط الخرطوم الذي صار مثل مكان تجري فيه معركة حربية .. وبقايا المعركة تملأ الشوارع والطرقات.. وهدف اللقاء إلى شحذ الهمم لإعادة وجه الخرطوم الجميل ابتداء من قلبها، فالوجه يعبر عما يعانيه القلب.. وقد أسهم كل قطاع من القطاعات التي شاركت في اللقاء وعلى رأسها الإعلام وهو في الحقيقة كان حضوراً مميزاً ومكثفاً.. فهناك من أسهم بالكلمات ومن أعرب عن استعداده لتقديم كل الدعم المادي لمساعدة اللجنة في إعادة تجميل وتنظيف وترقية وسط الخرطوم.. فنأمل أن تعتبر اللجنة لقاء الأمس نقطة البداية لإعادة الابتسامة الحلوة للعاصمة وجعلها عاصمة نظيفة.. راقية جاذبة تُدخل البهجة إلى نفوس القادمين إليها من السياح والمستثمرين والباحثين عن الجمال والراحة.. خاصة والخرطوم تتمتع بموقع غير مسبوق عند ملتقى النيلين..