ذكرت في المقال السابق أن الكل يتسابق على الخرطوم، رجال اعمال، متمردون، اعداء النظام وحتى الحركة الشعبية التي فصلت الجنوب عن الشمال واستقلت به تفكر في جنوب جديد!! وإذا سألت عن نظام الحكم ونوعيته جاءتك الاجابة بأنه فيدرالي لكنه في حقيقة الأمر مركزي في كل شيء، حتى في حيازة قطعة أرض سكنية في أطراف الخرطوم، فهي أفضل لصاحبها من قطعة أرض في الدرجة الأولى في ولايته، كل المواد الضرورية تتوزع في الخرطوم ، العلاج، التعليم، الصحة، الثقافة، التجارة، الصناعة، القرار السياسي، كل شيء..!! هذا وضع الخرطوم في موقف لا تحسد عليه فهي تمثل عدة عواصم، عاصمة إتحادية، عاصمة ولاية، عاصمة التجارة، عاصمة الثقافة بأنواعها، وهذا ما لا تحتمله أكبر عواصم الدنيا المتقدمة والمتطورة، لذا فإن أي خلل يقع في الخرطوم تجد تأثيره المباشر على أرجاء السودان، وعلى العكس من ذلك نجد الذي يحدث في ولاية النيل الأزرق كخبر لا يتعدى في كثير من الأحيان خبر تسلية دون أدنى تفكير في العواقب التي لا تمس المنطقة التي حدث فيها إنما يمس كل البلاد من أقصاها إلى أقصاها..!! هذا الوضع خلق إحساساً غريباً بعدم الانتماء، وهذا ظاهر في تفاعل المواطنين مع الأحداث خارج منطقتهم التي فيها يعيشون، وبجانب السياسات المطبقة، كرّس الوضع ظواهر عنصرية ما كانت ملحظوة من قبل، لذا ينظر الجميع إلى كعكة الخرطوم كل يريد أن يأخذ نصيباً منها فلو وجد المواطن في دارفور مثلاً المياه متوفر لتوفرت لديه المراعي والذراعة ولاصبح منتجاً تعتمد عليه دارفور والسودان، ولما نظر إلى الخرطوم نظرة الغازي المسلح وليس نظرة المنتج الممول للاقتصاد الوطني..!! والسبب في هذا هو النظام الإداري المتبع في كل الولايات والتي يجب أن يكون الوالي فيها مؤمن من المؤتمر الوطني، وهو حزب لم يقم على فكر سياسي معين، إنما صُنع لأسباب ليس من بينها القيادة السياسية ولا سلوك منهج للحكم ولا ليقود إنما ليقاد، وقد ذكرت من قبل ان المصنوع يرضخ لقوانين صانعه وليس العكس، ومن هنا بدأت العلة..!! وغاب بضعف المعارضة الصراع على الحكم، ولكن وبما أنه لا حياة بلا صراع فإن الصراع الذي غاب خارج الحكم ظهر في داخله، ولنا أمثلة كثيرة على ما نقول، في دارفور وفي الجزيرة وفي القضارف والبحر الأحمر، وحتى في الخرطوم حيث ظهرت أول ما ظهرت مذكرة العشرة، ثم الالفية، والمئوية وغيرها ومازالت المذكرات تترى!! إذن هناك أزمة، وليتها كانت أزمة اقتصادية فهذه يمكن تجاوزها فالشعب السوداني درج منذ استقلاله وقبله على تحمل الشدائد ولكنها أزمة الأزمات، أزمة حكم..!! عجزت عن حلها الوسيلة السياسية الوحيدة في البلاد وهي ما يسمى بالمؤتمر الوطني، وعجز المؤتمر الوطني بدأ منذ ولادته، فقد جاء متأخراً جداً وما لمثل هذا الغرض تأسس، فالذي استولي على الحكم بالقوة لا تحرسه السياسة إنما ذات القوة التي أتت به، وما كان النظام بحاجة لحزب سياسي يدير أموره طالما أنه استخدم وسيلة مغايرة، كانت ناجحة في ظروف استثنائية!! وهناك أمر غريب يتقاسمه الطامعون في الخرطوم والحكام في الخرطوم، فالتمرد وضع الاستيلاء على الخرطوم هدفاً للحكم بما في ذلك منطقته التي ترفضه لأسباب عنصرية، أما الحكام في الخرطوم فيشعرون بالأمان التام لهدوء الخرطوم والاستقرار بها، ويظنون أنهم بإمساكهم زمام الأمور فيها إنما هو دليل بقائهم في الحكم، فالكل ينظر إلى السودان ويختصره في الخرطوم، حتى بما في ذلك حكام الخرطوم كما تسميهم وسائل الإعلام..!! وهذه النظرة فرضها وضع الخرطوم الشاذ الذي جمع كل شيء في لا شيء، فهي عاصمة السياسة ولا سياسة وعاصمة الاقتصاد بلا اقتصاد وعاصمة الثقافة بلا ثقافة ولا مثل ولا قيم تقوم عليها ثقافة.. وبات من الضروري إعادة النظر في هذا الوضع الشاذ والمريض في آن، ويتم هذا بترتيب البيت أولاً في الخرطوم وفي ذات الوقت في الولايات، حيث يمكن لكل عاصمة ولاية أن تكون خرطوم ولايتها، بل وتفاخر بها على ذات الخرطوم، وهذا لم يكن بعيداً، فحتى عهد قريب كانت المدن حين كانت مديريات تتفاخر وتتباهى على الخرطوم برغد العيش وسهولة الحياة، فالمديرون وحتى صغار الموظفين حين يتم نقلهم من عطبرة أو الأبيض او نيالا أو حتى إلى الخرطوم فقد كان هذا النقل مساوياً بالنسبة لهم نكبة وبلاءً لا يطيقه، في ذلك الزمن كانت الأقاليم أحب إلى الناس من الخرطوم! لأن الأقاليم والمديريات كانت أكثر حرية رغم المركزية المطبقة منها اليوم بما نسميه الحكم الفيدرالي!! وحتى يروق المكان للانسان؟! حين يجد العمل والمسكن والأمن، وحين افتقد هذه العوامل نزح إلى الخرطوم التي أصبحت هدفاً للجميع حتى المتمردين حاملي السلاح، فالاستيلاء على الخرطوم هو الاستيلاء على كل السودان ذلك الواسع الشاسع والذي اختزل في أصغر ولاياته مساحة وهي الخرطوم، بل وفي شارع واحد منها هو شارع النيل في الخرطوم وشقيقه في أم درمان..!! حتى تشعر الولايات بنفس أهمية الخرطوم يجب أن يعاد النظر في النظام السياسي والإداري وبما أن الولايات والسودان عموماً يغلب عليه الطابع القبلي والذي أخذ ينمو في العقدين السابقين فاعتقد أن يكون لكل ولاية برلمان لا يتعدى عدد نوابه المائة نائب وبجانب هذا البرلمان يُشكل مجلس حكم الولاية من شيوخ ونظار القبائل، وهم فعلاً حكماء وإلا ما اختارتهم القبائل لقيادتها، وما دام نظام الحكم قد كرس لهذا فإن دور قادة وزعماء ونظار القبائل دور هام ومطلوب، فهم الأدرى بحاجة رعاياهم أكثر من أي جهة أخرى تعتمد في حلولها على أساليب نظرية معلبة تصطدم أول ما تصطدم بالواقع المغاير لنظرياتهم، فالنظرية تشكل في البيئة وتعتمد معطيات عملية تخضع فيما بعد للبحث العلمي للتطور والتنمية!! الأمر الثاني ازالة العبء الكبير على الخرطوم والذي اختزل كل السودان فيها، بتفويض الولايات في حل قضاياها التي ربما لا تعرف الخرطوم عنها شيئاً ورغم ذلك تقوم بالحلول التي تقود للكارثة كما حدث ويحدث الآن، وليست في حاجة لذكر الخلافات بين الولاة والمركز حتى إن بعض الولاة رفعوا عصا العصيان!! ماذا يريد أهل السودان، إن متطلباتهم شرعية وهي من أصل وأساس حقوق الإنسان فالراعي يريد المرعى وذلك لن يتم إلا بعمليات حصاد المياه واستخراجها من باطن الأرض للراعي والمزارع وغيرهم يريد العمل والعمل لن يتوفر إذا لم تتوفر المياه للزراعة والثروة الحيوانية والصناعة واذا توفر الماء توفر كل شيء حتى انفس المعادن الذهب!! الحكومة الفيدرالية والتي تحكم الأمور القومية غير الولائية أو سمها الاتحادية يجب أن تكون محدودة العدد للحد الأدنى، وان يكون لكل وزير فيها المعلومات الدقيقة عن الموارد التي يملكها السودان .. وما اكثرها وأغناها.. حتى لا يشطح ويخطط بطريقة حشاش بي دقنو التي تطبق الآن يجب أن ترتبط الوزارات ببعضها البعض وتتبادل الإمكانات، حتى تخرج من تلك الحكومة ميزانية قابلة للتطبيق، يقبلها العقل ويدعمها العلم المستند إلى المعطيات على أرض الواقع!! فمن الآن ننظر إلى مجلس الوزراء الذي أصبح مكتظًا كمدرجات الجامعة، ولا أدري اين وكيف يجلس هذا الجمع الغفير، الذي يفوق تعداده حضور أكبر الندوات العلمية!! هذا الكم الهائل من الوزراء، أول ما يقابلك من صعوبات هو عدم القدرة على مراقبة الأداء، لذا تجد الوزير هو الآمر الناهي في وزارته بل جمهوريته بلا رقيب ولا حسيب يجنب ما يشاء ويفتح الحسابات كيف يشاء ويصرف دون رقابة الدولة، لذلك كانت الوزارة مبتغى كل من في نفسه غرض، وتجد الوزير لا يعرف عن وزارات أو جمهوريات الوزراء الآخرين شيئاً، فيخطط بعد النظر إلى السقف أو بالأفكار الفجائية التي تداهم بطانته اثناء الاجتماع دون ان يدري اي معلومة عن الوزارة المجاورة بإمكاناتها لتحقيق ما خطط..!! ولكي لا أكون مبالغاً وحدث ذلك في إيران حيث وعد أحد الوزراء بأن يصدر لذلك البلد كميات من الذرة والحبوب الغذائية الأمر الذي جعل من علماء ذلك البلد يندهشون، وعندما درسوا العرض بصورة علمية اتضح لهم أن ذلك القدر من الحبوب يستنفد نصيب السودان من مياه النيل فكيف ستقدمون كل هذا الكم..؟! سؤال لم يجد الإجابة عند سيادة الوزير!! لذلك أدعو لحكومة التكنوقراط الذين يعرفون ماذا يفعلون وكيف يصلون إلى اهدافهم بالتعاون مع بعضهم البعض، ويوظفون السياسة لخدمة العلم، وليس العكس كما يفعل المصنوع والذي لا ينفذ إلا سياسة صانعيه..!! هذا الوضع يخلصنا من عطالى السياسة الذين يسمونهم مجازًا بالدستوريين والذين يصرفون أضعاف ميزانيات الصحة والتعليم مجتمعة، وهم جيوش وفيالق، لا قبل لميزانية البلاد بهم..!! كل هذا يجب ان يتم وبطريقة سلمية، ولن تنفذ البلاد عودة منشق للمنشق عنه فتلك عودة لن تقنع أحداً، وربما هم أيضاً على غير قناعة بما يقولون إلا أن خوفهم من كارثة وشيكة هو ما دفعهم لأبغض التوحد..!! لن ينقذ السودان جمع هؤلاء أو انشقاق أولئك فالذي يجمع السودان هو أن يقدم للشعب مطالبه الأصيلة والبسيطة والقانونية، أما استمرار نظام الحكم على أخذه العزة بالإثم فسينال الجميع العذاب في الدنيا والآخرة أدهى وأمر!!