الاعتداءات غير المفهومة وغير المبررة التي تنفذها قوات الحركة الشعبية بمساندة الحركات المتمردة في جنوب كردفان على مواقع الإنتاج النفطي بهجليج ثم مناطق تلودي وما جاورها، جعلت العديد من الجهات التي طربت للاتفاق الإطاري الذي وقعته الحكومة في أديس أبابا مع الحركة الشعبية قبيل أيام قلائل والذي هو بكل المقاييس عبارة عن اتفاق لتقديم السودان دولة وشعباً وأرضاً على طبق من فضة للأطماع الجنوبية ومن ورائها كل حلفائها من قوى الشر، نقول هذه الاعتداءات جعلت كل الأصوات التي تغنت بالاتفاق تصاب بما يشبه الصدمة برغم أنه لم يكن بمستبعد في ظل كل التجاوزات والخروقات التي ظلت تمارسها الحركة حتى بحق بنود نيفاشا، الاتفاقية الأم، ناهيك عن «اتفاقات إطارية» لم تأت سوى بما هو قائم أصلاً وبرغم أنها كانت استباقاً لما يفترض به أن يتم مطلع هذا الشهر إلا أنه وتبعاً للعديد من الشواهد فإن أوضاع مواطني دولة الجنوب المقيمين في الشمال ربما لن يطرأ عليها أي تغيير، نقول ذلك استنادًا إلى التضارب الكبير في تصريحات الرسميين حول هذا الموضوع حتى على مستوى وزارة الخارجية، برغم أن البرلمان ومن جهته قد حسم هذا الأمر. إن هذه الاعتداءات وبصورتها التي تتم بها تدل دلالة واضحة على مدى التخبُّط الذي تتردى فيه السياسة الجنوبية، فحتى لو فرضنا جدلاً أنها تقوم بهذا الأمر وفق تخطيط دقيق كخطة بديلة لمخطط آخر اختلفت حوله قيادات الحركة، أو حتى لو سلمنا بأن الأمر ما هو إلا حلقات في مؤامرة يتم تنفيذها بروية، وخطوة خطوة. فإنه يبقى من غير المنطقي أن تسعى قيادات الحركة وقد أصبحت قاب قوسين أو أدنى من تحقيق أمر يعتبر نصرًا لا يقل عن نصر نيفاشا، بل هو أعظم حيث أن نيفاشا قد منحت مواطني الجنوب الحق في التمتع بكامل حقوق المواطنة في الجنوب بينما اتفاق الحريات كان سيمنحهم الحق في التمتع بحقوق لا تقل أهمية عن ذلك في السودان أيضاً، وهو أمر كما قلنا مرارًا لا يحلم به إلا مواطنو الدول التي توحدت أهدافها وبلغت شأوًا بعيدًا من التعاون والتفاهم على كل المستويات. نقول يبقى من الغريب إذن أن تنسف جوبا كل هذا بتحرك أرعن كالذي قامت به في جنوب كردفان، أو كالذي قامت به أمس الأول في تلودي ومفلوع في العمق السوداني، وهي تعلم علم اليقين أنها لن تستطيع البقاء في شبر واحد تحتله في أرض سودانية إلا بمقدار ما يمكنها فقط من استدبار وجهتها والعودة أدراجها بغير ما شيء سوى الكثير من الخسائر عسكرياً وسياسياً. ولا نعتقد أن مسارعة قيادات الحركة ممثلة في سلفا كير إلى تبني العملية الخاسرة والخاطفة إلا أكبر دلالة على شيء آخر يجري في الخفاء وهو ما ستكشفه الأيام غدًا بكل تأكيد، خاصة إذا ما قرأنا بصورة متأنية رد فعل الأحزاب الجنوبية المعارضة على الهجوم الغادر على هجليج، فهي قد أكدت في تصريحاتها على وجود تيارات داخل الحركة الشعبية نفذت الهجوم وأن الحركة كمنظومة سياسية تشهد انهيارًا كبيرًا. وسواء صح هذا الأمر أم لم يصح فإنه تبقى حقيقة أن هناك شيئاً ما يجري تحت الأرض في جوبا وأن صراع السلطة والمراكز فيها يتخذ أشكالاً عدة ستبرز حتماً بصورة أشد في الفترات المقبلة وبرغم أن هذا الأمر يبدو منطقياً كتفسير للخطوة الرعناء التي تمت في هجليج وتلودي وما جاورها، بل وكل الخطوات المقبلة التي تتشدق بها القيادات الجنوبية من على المنابر الإعلامية، إلا أنه يجب ألا يستثنى من المشهد عامل آخر هو أكثر أهمية من الصراعات الداخلية في الجنوب. وذلك هو التأثير المباشر الذي تمارسه الأيدي الخارجية على القرار في جوبا، إن كان هناك قرار، فحتي لو كانت هناك رغبة حقيقية من بعض التيارات داخل الحركة والتي يمكن وصفها بالمعتدلة، ببناء علاقات حسن جوار مع السودان فإن التداخلات في المصالح ومن ثم التدخلات من قبل الأطراف الفاعلين والنافذين في المجتمع الدولي والذين ظلوا يديرون كل الملفات مع الخرطوم من وراء الكواليس منذ نيفاشا وحتى أديس الأخيرة، تبقى هذه الأطراف أحد أهم العوامل الحاسمة في تحركات جوبا وميولها نحو الحرب أو السلام. إن أكثر ما نخشاه وفي ظل التخبُّط الذي يحكم القيادة الجنوبية أن تظل جوبا سواء رغبت بذلك أم لم ترغب وإيفاء لديون كثيرة سابقة أن تظل تخوض حروب استنزاف طويلة الأمد بلا هدف سوى إرهاق السودان وشل قدراته. وهو الهدف الإستراتيجي الأول لكثير من القوى العالمية التي لا تريد للمارد السوداني أن ينطلق، بل هو مستهدف من قبل كيانات وجهات عديدة ترغب في إتيان الأمة الإسلامية والعربية عبر بوابتها الجنوبية وإحكام الطوق حولها تماماً. إن التسليم بالافتراضات التي يضعها المنطق هي أولى الخطوات لحلحلة الإشكال، وهو ذات المنطق الذي يقول بأنه من المفترض أن يفقد الجنوب ومفاوضوه أي إمكانية للجلوس مرة أخرى إلى طاولة المفاوضات مع الخرطوم. بل وأن يغلق هذا الباب تماماً ولا يفتح حتى تقدم جوبا ما يمكن أن يحسب لصالحها كنوايا حسنة تقدمها عربوناً لبدء مرحلة جديدة مع السودان وشعبه، والذي ظل وبرغم كل شيء يمد حبال الصبر حتى كادت تهترئ !!!