للمدن طعم خاص عند أديبنا الطيب صالح وهو مغرم ومفتون بالمدن العربية ولها وقع وطعم خاص عنده. وفي هذا الجزء الثاني من مختاراته، يتحدث عن مدن الشرق العربي وهو لا يكتفي بالشرق العربي فقط وإنما يذكر بانكوك وسيدني في تايلاند وأستراليا. وللصداقة وقعها الخاص عند الروائي الطيب صالح، لذلك فهو في المدن التي يزورها يهمه الإنسان في المكان. وهو يرى أن آفة الآفات في عالمنا العربي، هو تفشي الأمية وهي تجعل العربي يتساوى مع أخيه في التخلف عن الركب الحضاري. والأدباء يسعون إليه في كل مكان يزوره، فصديقه في اليمن هو الشاعر عبد العزيز المقالح. وفي العراق سليمان العيسى، وفي المغرب، مؤسس منتدى أصيلة «محمد بن عيسى» وغيرهم، والطيب صالح يكرر دائماً، أن الجمال عند العرب «جمال المكان» يتمتع به السياح وأهله لا يحسون بالجمال الذي يحيط بهم، وأبلغ مثال لذلك مدينة «حجة» في اليمن ذات الجبال والأودية الخضراء.. وفي مدينة الرياض السعودية، يتجلى إيمانه وهو يقول «بلى، ولكنك تعلم أنه صلى الله عليه وسلم، كان له شأن آخر، كان قلبه العظيم مفتوحاً على أسار الكون، يتلقاها من لدن حكيم عليم، كان فوق الكلمات والحروف، لأنه مفتاح خزائن الأسرار ومنبع تجليات الأنوار.. ومع ذلك كان يحض المسلمين على القراءة والكتابة، وكان يعتق الأسرى لقاء تعليم القراءة والكتابة، وكان يعتق الأسرى لقاء تعليم عدد من المسلمين. وقد كانت تلك أول حملة لمكافحة الأمية في جزيرة العرب، بل وفي العالم.» وعن مكةالمكرمة يقول «فأنت حين تدخل مكة، فإنك لا تدخل مدينة بعينها في مكان بعينه، في زمان بعينه، تجيء وكأنك تعود إلى نقطة منطلق الأحداث وكأنك تدخل في مركز الدائرة، وأنى لك يا مسكين أن تقوى على ذلك؟» وهو في مكة يستشهد الطيب صالح بمديح حاج الماحي الذي يحبه جداً. ويقول عن ذلك: «لا أظن من السودان، من يزور هذه الأماكن ولا يخطر بباله «حاج الماحي» لأن شعره خاصةً وشعر أضرابه، قد صاغ وجداننا ونحن أطفال نتشبث بأذيال آبائنا وأمهاتنا في حلقات «المديح» بالعشيات قبل أن نعرف القراءة والكتابة...» وتونس، تعجبه خضرتها، وكان وزاراؤها المثقفين في عهد بورقيبة كانوا صحبته وأكثر من أثروا فيه في الجانب الإعلامي المتخصص، وفي تونس حضر مؤتمراً للأدباء العرب، شارك فيه الشاعر الراحل محمد المهدي المجذوب وحسن أبشر الطيب، والدبلوماسي الناقد عبد الهادي الصديق. والقاهرة يعتبرها مدينة الحضور الثقافي الدائم ويقول عن ذلك علمنا هذا الحضور نفسه، معنى آخر من معاني الوحدة القومية للثقافة العربية، التي ينبغي أن تقوم على تعدد الأصوات لا الصوت الواحد، وعلى التنوع لا التنافر، وعلى التسامح لا التعصب، وعلى تعدد المراكز لا المركز الواحد الأحد. فالتعدد والتنوع والتسامح، الحوار والتفاعل والتبادل هي بعض طرائق الثقافة في تحقيق وعد المستقبل الذي يحلم به كل الشعراء...». وعن رمضان في القاهرة يقول «أدركني رمضان الكريم في القاهرة، وهي نعم البلدة لصائم رمضان، المسلمون كلهم يحتفلون برمضان، ولكن حفاوة المصريين به شيء آخر، كأنه حقاً ضيف عزيز طال انتظاره، يستقبلونه بالتهليل والترحاب والطبول والأضواء...» وفي بانكوك في تايلاند، يتذكر الكاتب الإنجليزي سومرست موم الذي كان يحب هذه المدينة، والطيب صالح يقدم سيره ذاتية موجزة عن هذا الكاتب، ما يجعل أدب الرحلات عنده ممتعاً وشائقاً وفيه من السير الذاتية مقاطع شائقة وممتعة.. وتايلاند هي عاصمة الديانة البوذية، ويرى الطيب صالح أنها مميزة لا تشبه الصين ولا الهند.. وهو يرى أن السياحة فيها قد أفسدها الأمريكان بأموالهم وخاصةً الجنود خلال الحروب الآسيوية الماضية. وفي مدينة سيدني الأسترالية يحس بأنه يتجول في مدينة أمريكية فأوجه الشبه عموماً بين أستراليا وأمريكا أكبر من ما بينها وإنجلترا.. ولا ينسى الطيب صالح أن يدين تهميش وتغييب أهل أستراليا الأصليين من الأبورجنيز.. وأن الاستعمار الأوربي لأستراليا قد ساعد في انقراضهم ليحل محلهم دونشك.. ولا ينسى أن يشير إلى مفكري ومثقفي أوربا الذين وقفوا وأدانوا بأسلوب عميق مؤثر الوحشية التي أظهرها الأوربيون في فرض نفوذهم على شعوب آسيا وإفريقيا والأمريكتين. لقد كتب الطيب صالح هذا المؤلف، بأسلوب سردي شائق وممتع ولغته لغة رفيعة ومميزة، ويمكن أن يضاف دون تردد إلى أدب الرحلات وهو جنس أدبي له قراؤه ومعجبوه، وفي رحلاته يستشهد بالشعر الذي يحبه وهو لا يقحمه إقحاماً، وإنما تحس بأنه يملأ فراغاً في النص، ويكون واحة يعود بعدها القارئ لمواصلة القراءة.. وتشعر بإخلاص كاتبنا الكبير للود والصداقة التي يحملها في داخله لكل في يعرفه في الدول والبلد الذي يزوره.