خلال الفترة الانتقالية بعد نيفاشا، وعقب مجيء الحركة الشعبية لتكون جزءاً من السلطة في 2005م، ظلت كوادرها وقياداتها التي تولت مناصب دستورية في الدولة، تبحث وتنقب عن شيء واحد في رزنامة الاتفاقيات الثنائية بين السودان ومحيطه العربي والإفريقي، وهو اتفاقيتا الدفاع المشترك بين السودان ومصر والسودان وليبيا في إطار التكامل بين الخرطوم وطرابلس!! ولم تكن قيادات الحركة الشعبية منشغلة بهم وهاجس، مثلما كانت منشغلة وفي كل مكان وصلت إليه أياديها بهاتين الاتفاقيتين، ومدى فاعلية الالتزام بهما، خاصة أنهما لم تلغيا ولم تشطبا وتكشطا من مسار العلاقة بين السودان ومصر وليبيا. وسبب هذا الاهتمام المبكر خلال الفترة الانتقالية وحتى الاستفتاء، له ما يبرره لدى الحركة الشعبية، التي لم تتراجع عن مفهومها للعلاقة بين الشمال والجنوب في تلك الفترة أو السودان ودولة جنوب السودان بعد الانفصال، وهو مفهوم استراتيجي يعتبر السودان منطقة محتلة من العرب والمسلمين ويجب العمل على إخراجهم منه، كما قال قرنق في ندوة شهيرة له في فرجينيا بالولايات المتحدةالأمريكية في عام 2003م، وكما أشارت كل أدبيات الحركة الشعبية، وأقره مشروعها السياسي «السودان الجديد»، وهو ترجمة عملية لشعور الكراهية والحقد على السودان وشعبه، وهو ما فعلته الحركة والقوى الدولية الداعمة لها بتجميع ما يسمى «قوى الهامش» التي تتبنى هذا المشروع، وهي جزء منه، وقيادتها للحرب الحالية جاءت من أجل سقاط النظام وإقامة السودان الجديد، وقال باقان عقب إعلان الانفصال إن هذا المشروع سيستمر رغم الانفصال، وهو يعني مواصلة الحرب من أجله لفرضه على السودانيين!! وتخشى الحركة الشعبية ودولة الجنوب أن تكون هذه الاتفاقيات مازالت موجودة، لأنه في حال حدوث حرب مفتوحة بين الجنوب وهو دولة والسودان، ربما تجد هذه الاتفاقيات سبيلاً للبروز إلى السطح ومن ثم تمشي عياناً على الأرض.. فالجنوب وهو دولة إذا استقوى بغيره في جواره الإفريقي ووجد مساندة دولية، فللسودان أيضاً مجاله الحيوي، وتوجد التزامات جوارية وأخرى قومية من موئله العربي تقف معه وتسانده. ولهذا كانت الحركة الشعبية مشغولة ومشتغلة بدراسة وضع هذه الاتفاقيات وحالتها الموضوعية ووضعها في راهن الأحداث التي تمر بالسودان. لذلك انصب اهتمام حكومة جوبا وانكب على فحص وقراءة تصريحات وزير الخارجية المصري السيد محمد كامل عمرو خلال اتصاله الهاتفي مع وزير الخارجية علي كرتي أول أمس، وتأكيده دعم مصر اللامحدود للسودان، ووصفه ما فعلته دولة الجنوب بالسلوك العدواني، وأن مصر توظف كل ثقلها الإقليمي والدولي للحفاظ على استقلال وسلامة أراضي السودان، ومطالبته جوبا بسحب قواتها من هجليج. ويبدو أن التطورات التي حدثت بالهجوم على هجليج وورطة جوبا في هذا العمل العدواني والغدر الفاضح، ستدفع بمزيدٍ من التوجس خيفة في دولة الجنوب من أن تؤدي لما لا تحمد هي عقباه، وتوقظ الاتفاقيات التي تجعل من الأمن القومي السوداني مفهوماً مشتركاً مع مصر وليبيا، بالرغم من أن نظامي مبارك والقذافي وضعا في عهديهما هاتين الاتفاقيتين في ثلاجة شديدة البرودة، ويوجد الآن ألف سبب يجعل الخرطوم والقاهرة وطرابلس في حاجة ماسة لتسخين الخطوط بينهما، وصياغة أطر للتعاون والاتفاق المشترك المبني على ارتباط تاريخي ومصيري لوجود مشترك ومستقبل واحد. صحيح أن السودان قادر على دحر هذا العدوان، وسيرد عن نفسه هذه الجائحة، لكن خطأ الحركة الشعبية الاستراتيجي أنها بعلاقاتها مع إسرائيل وفتح بلادها لعدو الأمة العربية الأول، وعبث الصهيونية في هذه المنطقة، ستجعل السودان ومصر وليبيا ودولاً كثيرة في المنطقة تنظر من جديد لمعالم وتحولات هذه المنطقة وتركيبتها الجيوستراتيجية وكيفية التعامل معها.. وفي مقدمة ذلك إحياء اتفاقيات الدفاع المشترك وإيقاظها من مرقدها، والاستعداد لما هو أسوأ في المستقبل .