لم أشهد غضباً كالنار الموقدة بمثل ذلك الذي استشاط في قلوب أبناء السودان بعد سماعهم للنبأ الأليم بدخول عصابات التمرد إلى هجليج ومحاولة قطع الشريان الذي يمد البلاد بموارد النفط، فكان السؤال الحائر متى أسست الحركة الشعبية جيشاً ومتى بنت دولة؟ لتحدِّثها نفسها باجتياح ديار لأناس رصّعوا جيد التأريخ ببطولاتهم، وشهد لهم العالم أجمع بالبسالة والإقدام. وإنه على أسوأ التقديرات ينبغي ألا يظن أحد أن الحركة الشعبية تتصرف بموجب عقل أوخطة تدري ماهي نتائجها، ذلك لأن الجاهل يكون أكثر عداوة لنفسه قبل أن يسبب الأذى للآخرين، فعصابات الحركة الشعبية والذين يوالونهم من مسميات أخرى أطلقت على نفسها الجبهة الثورية غاب عنهم جميعاً أن للسودان جيشاً، وكوادر، وصناعات، وموارد، وتأريخاً لم يستطع الاستعمار بكل ما أوتي من قوة مادية وثقافة علمانية أن يلوثه، أويجعل من أهله يركعون، فالركوع لديهم من المحرمات إلا لله رب العالمين. والغضب الذي تظهر إشاراته على جموع الشعب السوداني جراء ما ارتكبته الحركة الشعبية هو غضب يكاد المرء يجزم بأن مفاعيله وتبعاته ستكونان من جنس الطامة الكبرى على سلفا كير وأعوانه إذ أؤكد أنها لن تبقي أحدًا أوتذر متمرداً ليرفع هامته بعد الذي حدث، حيث لا تفاوض ولا تنازل إلا بتدمير ما يسمونه جيش الحركة الشعبية عن بكرة أبيه إن كان له أب وهو أمر مشكوك فيه وفق الذي أجمع عليه أهل السودان من هدف ولوكان نجما معلقاً في السماء «إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم». والحركة الشعبية حسب الذي نعرفه عن جندها وعتادها كانوا يأملون في عون عسكري يأتيهم من أصدقائهم ليواجهوا به عزيمة أهل السودان، لكننا نقول مهما كان الدعم الذي تتلقاه حكومة الجنوب فإن الذي يدفعه إيمانه لقضية إنما يقاتل بدافع الإيمان، ولا يفيده السلاح وإن كان من النوع الفتّاك. ولعلمنا بأن إسرائيل وغيرها من أعداء السودان قد نشطوا لتزويد حكومة الجنوب بالسلاح ومختلف أنواع الراجمات والدلالة على ذلك ما استولى عليه جندنا من سلاح في ميدان القتال، فإننا على يقين بأن الحركة الشعبية وإن أصبحت تجند أبناء الجنوب في جيشها كالجراد المنتشر، فهم بحق لا يساوون شيئاً إلا بقدر مكافحتنا لما يصيب إنتاجنا الزراعي من جراد تقضي عليه غارة واحدة، إذ لم يشهد السودان أنه أصيب في مقتل جراء جراد ينتشر. والغضب الذي ساد في أوساط بلادنا، كما لم يشهد التاريخ الحاضر مثله هو بكل تأكيد إيذانٌ باجتثاث مرض خبيث ظل يؤرق نوم الأجيال، غير أن وقت الاستراحة منه قد آن أوانه لأن الجراحة والكي بالنار هي آخر الوسائل لإحداث الشفاء لمن يعاني من المرض العضال. وصدق أهلونا بقولهم «إن الني للنار» ولا يفل الحديد غير عزم ونار.